رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فاتن حمامة يا جميلة


لم ألتق بالمصادفة إلا بعدد من كبار نجومنا ولأوقات خاطفة، كان من بينهم فاتن حمامة. رأيتها فى فندق «روسيا» بموسكو. جاءت لحضور مهرجان سينمائى عام 1988أو بعد ذلك بسنة لا أذكر. وكان عملى حينذاك مراسلا صحفيا يقتضى أن أغطى أنباء المهرجان. رأيت سيدة نحيفة قصيرة إلى حد ما تقف مثل عمود من نور. صافحتنى بيد رقيقة وقوية. تكلمت معها وأنا مدهوش من الانطباع الذى تتركه فى نفسى والمغاير تماما لما تتركه على الشاشة. فى السينما كنت أرى فى عينى فاتن - مهما اختلفت أدوارها- شعاعا من بريق العزيمة القوية، أما فى الحياة وأنا أتكلم معها فقد بدا لى أن إرادة الفنانة تتوارى وتخلى روحها للإنهاك البشرى. حينذاك شبكت «فاتن حمامة» قلبى أقوى بكثير مما قامت به كل أفلامها. قليلون من الكتاب والفنانين من يستطيعون أن يرتقوا من درجة فنان عظيم إلى عرش «فنان الوطن» لأن ذلك يستلزم ليس فقط الموهبة بل ويستلزم بالحتم أن تتقاطع حياة المبدع وأعماله مع قيم قومية وإنسانية تمس حياة الناس كلهم. فاتن حمامة مثلها مثل عبد الحليم ونجيب محفوظ وأم كلثوم استطاعت أن تكون فنان وطن، لأنها جسدت مئات الشخصيات المصرية المتنوعة بدءا من الطفلة إلى الأخت إلى الحبيبة إلى الثائرة إلى الأم وغير ذلك. أضف إلى ذلك اعتبارا مهما فى مجتمعنا وهو سيرة الحياة الشخصية النظيفة. يحكى محمد عبد الوهاب فى لقاءات له مع سعد الدين وهبة أن «فاتن» حين جاءت لتمثل معه لأول مرة فى حياتها فيلم « يوم سعيد» عام 1940 كان عمرها تسع سنوات فقط، وكانت تخطىء فيضحك منها، ولم تكن تدرى من هو عبد الوهاب، فاغتاظت منه واتجهت إلى المخرج محمد كريم، وقالت له وهى تشير إلى عبدالوهاب: «غير الممثل ده. كل شوية بيضحك وح يبوظ لك الفيلم». التقيت أيضا ذات مساء فى شارع طلعت حرب عام 1964بـ«إسماعيل يس» فى محل بقالة. دخلت فرأيته واقفا ببالطو بلون الكاكاو. أذهلنى مظهره ووجهه. الرجل الذى أضحك العالم بدا كأن العالم كله قد تحالف عليه ليحزنه. لاح لى كأنه أكثر الرجال حزنا فى العالم. ولم أنس وجهه ذلك أبدا. كان لى أيضا لقاء عابر مع «تحية كاريوكا». كنت أحبها من أفلامها وأرى فيها نموذجا لبنت البلد الجدعة. كان الوقت منتصف الليل وأنا أسير فى شارع عبد الخالق ثروت متجها إلى المنزل. فجأة رأيت أمامى تحية كاريوكا. تقف عملاقة كالشجرة الجميلة أمام باب فندق صغير تلوح بيديها وتصيح بصوت مرتفع فى مواجهة رجلين ضخمين. كنت صبيا نحيفا صغيرا لكنى قررت ألا أترك مدام «تحية» وحدها. اتجهت إليها وقلت لها بنخوة وشجاعة «ما تخافيش يا مدام تحية أنا معك». هبط العملاقان ببصرهما إلى بازدراء وأراد أحدهما أن يتقدم نحوى فإذا بها تطوينى بذراعها خلف ظهرها وتهددهما: «اللى ح يقرب منه ح أقطعه». واستدارت إلى وربتت على كتفى قائلة بحنان» خلاص يا حبيبى. روح انت لأمك» وعلى الفورأطلقت ساقى للريح حتى باب البيت وأنا أقول:«تيجى تنقذه ينقذك». برحيل فاتن حمامة اختفى زمن – هو نحن – بقصصه وشوارعه وحكاياته. مع السلامة يا جميلة الجميلات. وسلمى على «تحية» و«سمعة» و«القصرى» و«الريحانى» وكل أحبائنا الذين أبدعوا الفنون وعرفوا أسرارها.