رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عاد المخطوف.. وأين الخاطف؟


يعود إلينا مسلسل المخطوفين والمخطوفات من أولاد وبنات ورجال وسيدات عشنا فى زمن الخمسينيات من القرن الماضى، وفى قرى صعيد مصر وفى زمن قصير لا يتعدى أسابيع عندما تكبر زراعة الذرة حيث يختفى بين أعوادها مجرمو خطف الرجال إذ لم يكن من شهامة أهل الصعيد أن يخطفوا طفلاً أو امرأة، ثم يطلب الخاطفون فدية لم تكن تتعدى أكثر من ثمن بقرة أو جاموسة...

... كان الخاطفون يقيدون المخطوف ويضعون عصابة على عينيه، ويختفون بالمخطوف بين الزراعات، ويرسلون لأهل المخطوف رسولاً يطلب الفدية. كان الأهل يسلّمون المبلغ لكبير القرية، وبدوره يرسل المبلغ – غالباً بعد خصم جزء منه لزوم توفيق الأوضاع وحماية المخطوف والخاطف، إذ يضمن الكبير أن أهل المخطوف لن يبلغوا السلطات حتى لو عرفوا الخاطفين.

وجاء الدور بخطف «العم أمين» هكذا كنا نخاطب كبار السن بلقب « عمى» فى ذلك الزمان الذى عرف الاحترام. طلب الخاطفون مبلغاً لم يكن مستحيلاً على الأسرة أن تدفعه، لأنهم من الموسرين والقادرين، ورفض الأخ الأكبر «عمى بدروس» أن يدفع شيئاً، وهاجت العائلة لاسيما أولاد المخطوف وباقى أهل قرية الشيخ مسعود، ولم يتوقف الحال على رفض دفع الفدية، بل وأبلغ مأمور مركز طهطا الذى قام على الفور على رأس قوة وهاجم الزراعة والأرض المروية ليهرب الخاطفون ويتركوا عمى أمين مقيداً ليفكه الجنود ويعود إلى بيته.

لم يقف الحال عند تحرير الأسير، بل بالتحريات وإشراك العمدة وشيخ الخفراء عٌرف الخاطفون، وأُغلق باب خطف الرجال، فلم نسمع عنه إلا فى العصر الحديث هذا، حيث يخطف الأطفال حتى الرضَّع منهم، والأولاد والبنات والنساء والرجال، وارتفعت الإتاوات لتصل إلى الملايين، ولا ننسى تجار الذهب والمجوهرات، حتى وصلت أعداد المخطوفات و المخطوفين إلى المئات أغلبهم فى صعيد مصر وبعض من أطراف قرى الوجه البحرى.

قد يبرر البعض أن السبب الرئيسى فى هذه الجرائم هو الفقر والاحتياج أو الرغبة فى شراء الأسلحة المتطورة لارتكاب الجرائم الأكبر التى تتم فى مواجهة فريق آخر أصبح مستهدفاً غير الأطفال والنساء، وهم رجال الأمن الذين يدفعون حياتهم حماية للوطن ورموزه، ورجال الأمن وقياداتهم، وللأسف الشديد، فإنهم يعتبرون هذه الجرائم حروباً مقدسة، وجد من يبررها ويفسرها ويقننها، بل ويصفها بالجهاد الذى يثاب عليه فاعلوه حتى ولو مات الخاطفون فإنهم إلى جنات الخلد ماضون.ولم يعد المواطنون - حتى البسطاء منا – يقبلون التفسيرات والمبررات التى نسمعها عند خطف فتاة أو سيدة بلغت من العمر الكبر، تاركة أبناء وبنات بلغوا عمر الشباب، وبدعوى الهروب لتغيير الديانة، اللهم إلا إذا كان هذا السبب يعفى الخاطف من العقاب، ورحم الله أيام كان الأزهر فيها لا يقبل طلب من يدّعون تغيير الديانة قبل أن يُدعى الكاهن أو القسيس الذى يتبعه راغب الدخول فى الإسلام، ويعطى الفرصة والحرية الكاملتين لمقابلة راغب التغيير رجلاً كان أو امرأة، وذلك للتأكد عما إذا كان راغب التغيير جاداً فى رغبته بقناعة دينية كاملة لتغيير الديانة وليس لأسباب أخرى لا علاقة لها بالدين، وكان الكاهن أو القسيس يكتب موقعاً أنه قدم النصيحة، وأصر طالب التغيير على رغبته بحريته وإرادته وقناعته دون تهديد أو ضغط لم يكن هذا الإجراء حماية للمسيحية بقدر ما هو حماية للإسلام، حتى لا يصبح باباً خلفياً لأمور «دنيوية جسدانية فقط» لا علاقة لها بالرغبة الصادقة والقناعة الكاملة، بل للهروب من رابطة زوجية لم يجد لها حلاً، أو من أزمة أخرى لا علاقة لها بالدين، ولقد عبر عن ذلك فضيلة الإمام الأكبر الذى نجلُّه ونحترمه، ونعلى فيه القيم الأصيلة والتوجيهات النبيلة، عندما عبر عن نفس الفكر الذى يحتويه هذا المقال، وكان فى حديثه يهدف إلى عدم راحته من دخول أناس لا علاقة لهم بالدين، ولا يعبرون عن نوايا صادقة ورغبة جادة وقناعة فكرية وروحية، فيكونوا شراً ووباء لا إضافة وثراء.

لقد مرت هذه التجربة بديانات وعقائد كثيرة حتى ضرب بها المثل « الناس على دين ملوكهم»، فعندما دخل الإمبراطور إلى المسيحية من الوثنية سارعت أفواج من البشر للحّاق بدين الإمبراطور، فكانوا شراً علينا لا خيراً لنا، بل ثقلاً حان لا حركة منه ولا نشاط له، بل انتماء بلا مشاركة حقيقة، وصفة لا فعل منها أو رجاء فيها.

إن الإيمان الحق والعبادة الصادقة ليست فى المظهر أو فى الكلام، فهناك بعض الطيور التى تحاكى البشر كالببغاء تردد ما تسمع إن خيراً أو شراً – أما الإيمان فهو ما يثمر ثماراً تليق به، لذا نقول إن الأعمال الصالحة هى نتاج للإيمان، فهو يثمر أثماراً تليق به، والقول الحق نردده «أرنى إيمانك بدون أعمال وأنا أريك بأعمالى إيمانى». أنت تؤمن بأن الله واحد، حسناً تفعل، والشياطين يؤمنون ويقشعرون»

وهل يليق بى كمؤمن بأن الله واحد دون عبادته ومخافته ومحبة الآخر، حتى العدو أمرنا الإله الواحد أن طعامه واجب وسترته واجبة بقوله إن جاع عدوك فأطعمه وإن عطش فاسقه وإن فعلت ذلك تضع جمر نار على رأسه». أى إن فكره سيتغير وعداوته تتحول إلى صداقة. أما ما نشاهده من قطع الرءوس والتمثيل بالجثث وأكل لحوم البشر فلم يعد له وجود حتى فى أدبيات الغابات ومجاهل البلدان، فالسماوات مفتوحة، والأقمار الصناعية لا تترك بقعة من الأرض فى الخفاء، وإلا ما شاهدنا الفظائع التى ترتكب تحت غطاء الدين. إننى أشارك المتفائلين والحالمين بوطن يسوده السلام والوئام وبعالم قريب وبعيد، يتوقف فيه نزيف الدماء، واستهانة إراقة دماء البشر تحت أى مبرر سياسى «أطماعى» أو دينى، فدموع الأمهات الثكالى، وعيون الأطفال اليتامى، والخراب والدمار الذى لم يراع مأوى أو مستشفى، لتتوقف الأطماع ومعها الآلام والأوجاع، وليجلس الفرقاء حول مائدة الحوار، فهكذا حاور الخالق خليقته منذ القدم، فهل كثير على البشر أن يتحاوروا ويتجاوروا ولا يتشاجروا؟

رئيس الطائفة الإنجيلية بمصر