رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دراما رمضان ٢٠٢٤.. ( البساط مصريًا )

بعدما كان يروج له من تراجع وأفول للدراما المصرية خصوصا الدراما التاريخية وان الدراما السورية والتركية ومسلسلات الصابون والمدبلجة استطاعت سحب البساط من تحت اقدام الدراما في مصر.. يعيد الموسم الرمضاني الدرامي المصري هذا العام دراما مصر والفن المصري للصدارة لتتصدر الدراما المشهد بعدة اعمال متنوعة منها التاريخي والاجتماعي والفكاهي ومنها ما يمزج التاريخ بالحاضر لنسقط عليه ما كان ونستشرف المستقبل.

و أثبتت الدراما المصرية التي قُدمت -و عن عمد - بالعامية المصرية كتوجه جديد لتوصيل رسالة جديدة وهامة ذات دلالة يتم تصديرها بشكل ممنهج لاستعادة الروح المصرية وفرض وسيادة الثقافة المصرية من جديد والتي زاحمتها ثقافات وقوميات أخرى لا تستطيع الصمود من وجهة نظر كثيرين امام القومية المصرية والتي تعبر عنها بفصاحة لغتها الخاصة جدا وهي ( اللغة المصرية ) فان كانت اللغة (الهيلوغريفية ) والتي تدرس في الخارج ويحتفى بها ليس لها نصيبًا كبيرًا من الاهتمام في الشرق وبدأت مصر بالفعل في اتخاذ خطوات جدية لانعاش تلك اللغة والاحتفاء بها ومنحها ما يليق بها وما تستحقه.

لذلك قدمت الشركة المتحدة للخدمات الاعلامية التي أنشأت صحف ومواقع وقنوات اذاعية وتليفزيونية برنامجًا تتحدث فيه مذيعة شابة درست لغتها القديمة العريقة كوسيلة للترويج لتلك اللغة وللعامية المصرية التي سادت لسنوات ومازالت تأسر قلوب واذان المنصتين اليها من عشرات السنين  و فيها الكثير من المصطلحات والاوصاف والتعبيرات المأخوذة من لغتنا القديمة وبالتالي فالعامية المصرية هي قبلة الحياة للغتنا القديمة و للقومية المصرية والامة المصرية التي نشرت ثقافتها في الربوع والاقطار.. فالمصرية يعتبرها كثيرون لغة في ذاتها وليست مجرد لهجة..  و تلك اللغة هي التي تم استخدامها في مسلسل الحشاشين.

و كذلك في مسلسل ( جودر ) التاريخيين وقد اثار ذلك التوجه الجديد جدلًا واسعًا ورفضها البعض وعاب عليها البعض الاخر في البداية لتنجح ويستعذبها كثيرون اما المعارضون لتقديم الاعمال التاريخية باللهجة المصرية ممن ادمنوا الفصحى المقعرة التي قدمت في السنوات الاخيرة بلكنة سورية فقد نسوا ان العامية المصرية هي من اوصلت الفن المصري للعالم العربي بل والشرق الاوسط وأنه بفضل تلك اللغة كان لمصر الصدارة والقوة واسهمت لغتنا في نشر الثقافة المصرية بكافة مشتملاتها وصارت مصر هي قلب الشرق والعروبة وراقت اللغة لمستمعيها ومتذوقيها ومتذوقي الفن وكانت قوة ناعمة لا يستهان بها لمصر ليس فقط على المستوى الثقافي بل على مستويات عدة وهذا لا يعني ان الرواد في مصر لم يتقنوا الفصحى عندما قدمت من قبل في اعمال خالدة مازالت تعيش في الوجدان و أثار مسلسل ( الحشاشين ) وبالتحديد كل تلك التساؤلات والاشكاليات ليتفوق الانتاج الضخم وجودة الصنع وسلاسة الكتابة التي قدم بها العمل الذي يكاد يكون مثاليًا مكتملًا في كل عناصره وتسخير كل الامكانيات المتاحة من الشركة المتحدة التي قدمت دعمًا كبيرا وانتاجًا سخيًا قويًا للاعمال التي شهدها الموسم الرمضاني وذاع صيت مسلسل ( الحشاشين ) وتجاوز حدود القطر لاقطار ودول اخرى تناقلته وترجمته من لغتنا المصرية الآسرة للغاتهم فقد نجح الكاتب الكبير ( عبدالرحيم كمال ) في المزج ما بين الفصحى السلسة المخففة والمطعمة بالصوفية والعامية المصرية لتكون المحصلة  لغة رشيقة راقية احيانا يسميها ارباب المهنة ب( لغة الصحافة ) او اللغة التي تستطيع الوصول للجميع وليست مستعصية على العامة ولا تستعلي عليهم.

و في نفس الوقت لا ينزعج منها الاكاديميين لانها  بعيدة كل البعد عن الركاكة او الابتذال.. وعلى المستوى المحلي أسقطنا بهذا العمل المبهر والشيق المتقن على واقعنا البعيد والقريب فمنذ وفاة النبي وما حدث في واقعة ( ثقيفة بني ساعدة ) انقسم المسلمون على انفسهم وانسلخت عنهم شيع وفصائل بعضها كانت مرجعيته فقهية وبعضها كانت فلسفية وبعضها كان راديكاليًا ينتهج العنف اسلوبًا له وتعددت الاسماء ويظل الفكر  و المنهاج واحدًا وكل من حمل سلاحا وصوبه في وجه الابرياء وضد الدولة لاضعافها واسقاطها من داخلها باسم الدين متذرعين بالاله وبالامام الغائب والفريضة الغائبة طامعين في الجنة مدعين امتلاكهم لمفاتيحها لتجنيد المختارين من الجنسين متخذين كافة السبل والذرائع لتحقيق مآربعهم في السلطة والحكم ليملكون الدين والدنيا والحكم والعباد.

و أثار كل ذلك  فضول الكثيرين للبحث والتعرف على شخصية رب الحشاشين المخدوعين الذي يمكن ان يكون في زمن ما (حسن البنا ) او (سيد قطب ) او (حازم صلاح ابو اسماعيل ) فجميعهم وجوه متعددة لذات العملة الخبيثة وان تعددت الاسماء واختلفت الازمنة والاماكن فالمنبع واحد والفكر الخبيث واحد 
اما مسلسل الحشاشين فقد اختار شخصية ( حسن الصبّاح) وهو من مواليد مدينة (الرّى) في بلاد ( فارس) وقيل انه ولد فى مدينة (قُم) معقل (الإثنى عشر) قبل أن ينتقل  لـ (الرى) والتي بدأ (الصبّاح) منها رحلة البحث والدراسة فى كتب (الطائفة الإسماعيلية) و(العلوم الباطنية) 
حتى قابل مُعلم إسماعيلى لقّنه التعاليم كلّها.

و بعد ان صار مؤهلًا أبقى يمين الولاء أمام ذلك الدرويش الاسماعيلي نائبًا عن (عبد الملك بن عطّاش) كبير الدعاة الإسماعيليين فى غرب (إيران) و(العراق)حتى قابل ( بن عطّاش) (الصبّاح) بنفسه وطلب منه أن يزور مصر مهد (النزارية) وليسجل إسمه فى البلاط الفاطمى.. وبالفعل وصل (الصبّاح) لمصر بعدها بعامين ومكث فيها 3 سنين متنقلًا ما بين (القاهرة) و(الإسكندرية) 
حتى دب الخلاف بينه وبين (بدر الدين الجمالى) الذي سجنه و طرده من مصر 
على متن سفينة غرقت فى عرض البحر ونجى (الصبّاح) بفضل معرفته بعلوم الفلك وحركة الرياح في مشهد فني أخاذ ملىء بالجماليات التي حملها البعض أبعادًا طائفية ! ليكمل الصباح والذي أدى دوره وبإقتدار في كل مراحله النجم ( كريم عبدالعزيز ) طريقه لوسط آسيا..وفى تلك الفترة كان الملك المتوج على العرش يُدعى (آلب أرسلان) أو (الأسد الباسل) بالعربىة ووزيره صديق الصباح منذ الطفولة واسمه (نظام الملك) الذي قرر القبض على (الصبّاح) وقتل الحركة فى مهدها خصوصٱ بعد إنتشار أتباع الطائفة الباطنية فى السرّ وصراعهم مع الدولة بمفهومها العامودي والمؤسسي شأنهم شأن جميع الراديكاليين المارقين الدين يستخدمون العنف والخداع للوصول لغاياتهم
و كانت قلعة (ألموت) ملاذًا لهؤلاء الباطنيين المارقين المعزولين عن بقية العالم والمطاردين منه ليحاربوه معتقدين ان جماعتهم تستطيع الانتصار على الدولة وجيشها النظامي.

وكما رأينا في المسلسل بل ورأينا في واقعنا ان الجماعات الراديكالية  الانفصالية لم تفلح ابدا وطوال تاريخها في الانتصار على الدول والامم الكبرى.. فالحشاشين لم ينتصروا وجماعة الاخوان لم تنتصر وظلت الدول قائمة وظلت الجيوش بنظامها وسلاحها المقنن اللاعشوائي حائط سد منيع يطارد هؤلاء الجرذان المعزولين عن الاندماج  في مجتمعنا او العيش على أرضه في سلام وكان اسم ( ألموت )و المرادف له بالعربية هو (العُقاب) والمقصود هنا أن القلعة وكرًا للعقاب القابع في أعلى الجبال وهكذا يكون ( الصبّاح) قد صنع لنفسه قاعدة مسلحة فى تلك القلعة التي ظن انها حصينة ومنيعة وانها ستكون مركزًا موازيًا للحكم كعشم ابليس في الخلود والجنة وبدأ من عزلته تلك نشر دُعاته للإنضمام للطائفة الباطنية التي شكلت ميليشيات للإستيلاء على المُدن وخيراتها وقتل الابرياء.

و كان أول الضحايا هو المؤذن وزوجته بعد رفضهم الانضمام لهم.. فمن يختلف معهم يقتلوه ( يا نحكمكم يا نقتلكم ) وهو شعار الاخوان وجماعة حازمون ) فحسن الصباح شأنه شأن حسن البنا قد أتى بحزمة من الشرور والفكر الشيطاني والفكرة لا تموت والشيطان لا يموت وهنا تأتي عبقرية اللغة المصرية والعقل الجمعي المصري الذي كان مدركًا ولديه يقين لا يتزعزع بأنه -و كما يقال بالعامية المصرية - ( ما شيطان الا بني آدم ) ! أما اول ذكر لمصطلح (الحشاشين )
فكان فى رسالة الخليفة الفاطمى (الآمر بأحكام الله) 
والتي أرسلها  للإسماعيليين عام 1123 
ووصفهم فيها بإسم (الحشيشية) مرتين بدون سبب واضح وبعدها فى عام 1183 فى كتاب سلچوقى 
كتبه (عماد الدين الأصفهانى) بإسم (نُصرة النُصرة) 
ورد ذكرهم بنفس التسمية 
لان (حسن الصبّاح) الذي كان يصدر لاتباعه انه صاحب مفتاح الجنة !

كان يستخدم نبات القنب (الحشيش ) لغسل أدمغتهم وتغييبهم بالمخدر وبخدر كلماته وكاريزمته وبالطبع ترغيبهم بالجنة ونعيمها وخمورها وحور العين  
وقيل إنّ الأصل للكلمة هو كلمة ( العسّاسين) أي
العسس) او  السير ليلٱ
لان نشاطهم كان يعتمد  على التخفى فى الليل والظلام وقيل أيضا إنّ (حشاشين) هى نُطق أجنبى لكلمة (حسّاسين) والمقصود بها (جماعة حسن) فنطقوها (أساسان) 
ومنها اللفظ الفرنسى ثم الأجنبى Assassin أي (قاتل) ! وكما سبق وأوضحت ما أقرب ( حسن الصباح وأتباعه من الحشاشين ) بحسن البنا واتباعه من جماعة الاخوان المسلمين الذي جندوا أتباعًا باسم الدين والجنة ومارسوا سياسة  الإغتيالات والترغيب والترهيب وألقاءالرُعب فى قلوب أعدائهم وتوعدهم والتخفي أحيانًا إعمالًا بمبدأ التقية واعدادهم للفدائيين ( الانتحارين ) من الجنسين من المُؤمنين بإنّ مُفتاح الجنّة في يد إمامهم ومولاهم ! وكما اغتالت جماعة الاخوان النقراشي باشا ومارس الجناح العسكري منها  سلسلة من الاغتيالات كان من أشهر اغتيالات حشاشين حسن الصباح  (حاكم بيت المقدس)  الملك (كونراد) والذي قتله (حشّاش) مُتنكر فى زي راهب ! وطعنه وسط جنوده وكذلك الخليفة الفاطمى (المُسترشد) والخليفة (الراشد).

بل ووصلوا للوزير السلچوقي (نظام الملك) نفسه وإغتالوه بعد ما تنكّر (الحشّاش) فى شكل صوفى شحّات وطعنه وسط حاشيته ! ويقال إنّ ( شيخ جبل سورية) وهو لقب كان بيُطلق على قائد الحشّاشين) وأول مَن حمله كان (الصبّاح) نفسه ثم جاء بعده ( سنان ابن راشد ) والذي بعث برسول منهم إلى (صلاح الدين الأيوبى) الذي كان لا يستغنى عن حارسيه الشخصيين فسأله المبعوث عنهما لانه لا يمكنه قراءة الرسالة الا على القائد بمفرده 
فرد (صلاح الدين) بأن هذان المملوكان لا يفترقان عنى وأعتبرهما فى منزلة أبنائى وهم وأنا واحد.

فإذا أردت فقدم رسالتك وإلا فارحل فما كان من المبعوث إلّا ان وجّه كلامه للحارسين وسألهم 
إذا أمرتكما بإسم سيدى صاحب مفتاح الجنة أن تقتلا هذا السلطان فهل تفعلان؟ وفى دهشة من (صلاح الدين) سحب الحارسين سيوفهم وقالوله "نعم مُرنا ما شئت" ! فالحارسين كانوا من (الحشّاشين) الباطنيين المُتخفيّين
وبغض النظر عن إحتمالية كون القصّة مُبالغة او غير حقيقيةإلّا إن (الحشاشين) حاولوا بالفعل اغتيال صلاح الدين الايوبي مرتين ولم ينجحا وعاش جزء من حياته فى توتر وترقّب لأى خنجر شارد يطعنه فى أى وقت فبنى برج خشبى ينام فيه ولا يقترب منّه أى حد إلا بإذن منه وهذا ما سيق في مسلس الحشاشين عندما أثار الوزير الباطني شكوك ملك السلاجقة في جميع من حوله حتى زوجته  و جعله يعيش وحيدًا معزولًا فوق سطح قصره تاركًا فراشه وحاشيته وطعامه ونعيمه !

وظل الحال على ما هو عليه حتّى بعد وفاة (الصبّاح) فى قلعته وإستمرت الإغتيالات حتى وقوعهم في يد من لا يرحم ففي عام 1252 ميلادية دخل لشمال (إيران) رُعب زحف من شمال شرق أسيا مُتمثّلًا فى جيوش المغول - فكما سبق واوضحت - الجيوش دومًا ما تنتصر على الجماعات الانفصالية مهما طال الزمن وتولى (هولاكو) بنفسه حصار قلعة (ألموت) التي كان يحكمها آنذاك قائد (الحشّاشين) 
المدعو (ركن الدين خورشاه) والذي أستسلم ونزل هو وكل مَن كان فى القلعة ودخلها (هولاكو) وأسره ليموت فى طريق العودة وتنكسر شوكة واحدة من أخطر الجماعات فى التاريخ والتي كتب عنها ايضا ( أمين معلوف ) في رواية ( سمرقند ) ودوما ما ستنكسر شوكة مثل تلك الجماعات امام الجيوش النظامية.. وفي انتظار فيلم ( الحشاشين ) الذي اعلن عنه المخرج ( بيتر ميمي ) الذي أبدع في صنع المسلسل ويقيني انه سيبدع أيضًا في صنع الفيلم المزمع انتاجه وانه سيكون اسعد حالًا من التجربة السينمائية الاولى التي تطرقت لجماعة (الحشاشين ).