رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأب الروحى.. كيف أحيا أنشيلوتى «الكاتيناتشو الإيطالى» أمام «سيتى جوارديولا»؟

ريال مدريد والسيتي
ريال مدريد والسيتي

«كاتيناتشو تُشبه لوحة تيتيان، ناعمة ومغرية وضعيفة.. الإيطاليون يرحبون بك ويهدئونك ويجذبونك إلى أحضانهم الناعمة، ويسجلون هدفًا مثل طعنة الخنجر».. بهذه الكلمات عبّر الكاتب الإنجليزى ديفيد فينر عن أسلوب «الكاتيناتشو» الإيطالى فى كرة القدم.

«الكاتيناتشو» فى اللغة الإيطالية كلمة تعنى «القفل المتحرك»، أو «التِرباس» بلهجتنا العامية، ويُشبه تطبيقها التكتيكى على أرض الملعب «ديناميكية» عمل «القفل المتحرك»، فهى تقوم على وجود قطعة زائدة دائمًا تغلق القفل.

وفى الكرة تعنى وجود لاعب زائد يمنح زملاءه أفضلية عددية فى الدفاع، ما يُمكّن الفريق من غلق المساحات أمام مهاجمى الخصم، من خلال تراجع دفاعى، وتقارب اللاعبين من بعضهم البعض، مع ترك الاستحواذ للخصم، والبحث عن مساحة لتسجيل هدف مباغت.

وبهذه الطريقة الدفاعية استطاع ريال مدريد تحقيق الفوز على حساب مانشستر سيتى، فى إياب ربع نهائى دورى أبطال أوروبا، مساء أمس الأول، بركلات الترجيح، بعد التعادل فى مباراتى الذهاب والإياب بنتيجة ٤-٤.. فلماذا استحق «الملكى» التأهل على «كتيبة جوارديويلا»؟ وكيف انتصر «أنشيلوتى» لإرث كرة القدم الإيطالية؟

اعتمد التراجع الدفاعى وتضييق المساحات.. وقتل «كتيبة بيب» بالهجمات المرتدة

قبل الحديث عن استحقاق ريال مدريد التأهل إلى نصف النهائى، لنعد بالزمن ١١ شهرًا إلى نفس الملعب وبين كلا الفريقين، مانشستر سيتى وريال مدريد، فى نصف نهائى أبطال أوروبا.

يومها، لم يستطع ريال مدريد مجابهة ضغط مانشستر سيتى أكثر من ٢٢ دقيقة، لتتلقى شباكه الهدف الأول، أنصاف مساحات بين الظهيرين وقلبى الدفاع استغلها لاعبو «السيتى»، وتباعد بين الخطوط وضغط هزيل على حامل الكرة، وتقدم واندفاع هجومى بلا تنظيم دفاعى يحميه من ارتداد المنافس وخطورة هجومه، والنتيجة خسارة مذلة برباعية نظيفة، وخروج من دورى الأبطال.

ما حدث فى رباعية الموسم الماضى كان الدرس الأول الذى تعلمه «أنشيلوتى» فى مواجهة «السيتى»، فليس صحيحًا محاولة مجاراة «جوارديولا» ورجاله فى المعدلات البدنية، لذا ظهر لاعبو ريال مدريد متقاربين من بعضهم، يتحركون يمينًا ويسارًا مع الكرة، لغلق المساحات أمام تمريرات «السيتى» بين الخطوط، وحرمان لاعبيه من الوصول إلى المرمى بسهولة.

مانشستر سيتى منذ بداية الموسم الجارى واجه صعوبات فى الانتقال من الهجوم إلى الدفاع، والارتداد السريع، وتلقت شباكه أكثر من هدف بسبب المساحات خلف ظهيرى الجنب، وقلبى الدفاع، اللذين يتقدمان دائمًا لوسط الملعب فى حالة الاستحواذ، لتغطية تقدم «رودرى» وتقريب خطوط الفريق من بعضها بعضًا.

لذا، اختار كارلو أنشيلوتى اللعب بـ«٤-٤-٢» كرسم تكتيكى يتحول على أرض الملعب لـ«٤-٣-٣» فى الحالة الهجومية، واعتمد الطريقة الإيطالية المشهورة «كاتيناتشو»، من خلال التراجع الدفاعى وتضييق المساحات، وجذب لاعبى مانشستر سيتى إلى التقدم، وإجبارهم على خلق مساحة خلف الدفاع، لتنفيذ الهجمات المرتدة.

«خوسيلو» ليس المهاجم الأنسب لريال مدريد، ولا اللاعب الذى يمكن أن تعول عليه فى مثل هذه المباريات، ولكنه فى النهاية مهاجم الفريق، وكان من المتوقع أن يبدأ المباراة للاعتماد عليه فى تسلم الكرات الطولية، ونقل الفريق للحالة الهجومية.

لكن «أنشيلوتى» رأى فى وجود فينيسيوس جونيور فى هذا المركز فلسفة أثبتت نجاحها، معتمدًا على قدرات البرازيلى المهارية وانطلاقاته السريعة، لتقديم أدوار التحولات الهجومية للفريق، وقيادة الهجمات، بعودته لوسط الملعب وتسلم أولى التمريرات المرتدة، وخلق مساحة للانطلاق من خلالها بالهجمة المرتدة الخاطفة.

شجاعة كارلو أنشيلوتى تمثلت فى اختياراته لوسط ملعب ريال مدريد فى مباراتى الذهاب والإياب، معتمدًا على إدواردو كامافينجا فى مركز محور الوسط الدفاعى، للقيام بأدوار الخروج بالكرة من عمق الملعب، ثم الضغط على اللاعب المتحرر فى وسط ملعب «السيتى» لحرمانه من الفرصة المثالية لتسلم الكرة، وإجبار حاملها على التمرير على الأطراف، الموجود بها ٣ لاعبين لريال مدريد على كل طرف، أو الرجوع إلى الدفاع، ومحاولة البحث عن طريقة جديدة لاختراق منطقة الجزاء.

رغم تقلص مشاركاته الهجومية، إلا أن جود بيلينجهام كان أحد أهم عوامل انتصار ريال مدريد وتأهله، ومعه تونى كروس، فى عملية مداورة الكرة حال استحواذ الفريق عليها، والعودة إلى الدفاع، وغلق المساحات، والضغط على حامل الكرة، خاصة «بيلينجهام»، الذى كانت أدواره واضحة فى عملية الضغط على لاعبى الدفاع و«رودرى» فى وسط ملعب «السيتى»، لحرمانهم من الخروج بالكرة.

واعتمد «أنشيلوتى» التنويع بين الضغط العالى بشكل متحفظ من المناطق الأمامية لـ«السيتى»، لمحاولة خنق صناعة الهجمة، ثم الارتداد إلى ضغط متوسط على اللاعب الحر وحامل الكرة فى وسط الملعب، يتحول إلى ارتكان دفاعى وتضييق مساحات فى الثلث الأخير من الملعب، لمنع عملية الوصول إلى المرمى.

كثافة عددية وتقارب خطوط و3 لاعبين فى كل طرف لمواجهة الضغط النارى

شخصية لاعبى ريال مدريد ومديرهم الفنى ظهرت بعد ربع الساعة الأول من مباراة الذهاب على وجه الخصوص، إذ تلقى الفريق هدفًا مبكرًا، وظهر بعده متفككًا وتباعدت خطوطه وظهرت بينها المساحات، قبل أن يستعيد اتزانه ويبدأ فى تنظيم الصفوف مرة أخرى، عن طريق اكتساب الثقة بالتمريرات فى وسط الملعب، ووجود أكثر من لاعب لديه القدرة على الاستحواذ على الكرة، والخروج من تحت الضغط.

الطريقة الهجومية لـ«السيتى» على الأجنحة تعتمد على المساحات المتقاربة بين الجناح ولاعب الوسط القريب منه، وكذلك تقدم الظهير بشكل مثلث يمنح الفريق استحواذًا أفضل على الكرة، ويخلق مساحة فى دفاع الخصم، وهو ما كان فى حسبان كارلو أنشيلوتى، عبر الدفع بلاعب وسط وظهير وجناح لريال مدريد على كل جانب من الملعب، فى حالة الاستحواذ على الكرة، وكذلك اقتراب محور الوسط الدفاعى من المساحة الموجودة بها الكرة وإغلاقها، مع منح الفريق الأفضلية فى الكرة الثانية، خاصة على المستوى الدفاعى.

الحالة الدفاعية لريال مدريد كانت مثالية فى أغلب فترات مباراتى الذهاب والإياب، من خلال التقارب بين الخطوط، وخلق الكثافة العددية فى منطقة الجزاء أمام هجوم «السيتى»، لغلق كل المساحات الممكنة، وكذلك التقارب بين اللاعبين فى الحالة الهجومية، لمنح الفريق أكثر من خيار للتمرير والخروج بالكرة، والانتقال السريع من الدفاع للهجوم.

مباراة الإياب بدأت بشكل مثالى لـ«أنشيلوتى»، من خلال هدف مبكر، ثم تراجع دفاعى وانضباط تكتيكى من لاعبى ريال مدريد، ولكن أهم ما يحسب له ولرجاله هو الشجاعة فى محاولة الخروج بالكرة من ضغط «السيتى»، وكذلك الدفاع الشرس والمنضبط فى تحركاته، فعلى الرغم من الضغط المتواصل والمكثف من «كتيبة بيب»، استطاع دفاع ريال مدريد الحفاظ على ثباته وانضباطه، وتصحيح أخطائه بشكل سريع.

استحق أنطونيو روديجير، مدافع ريال مدريد، لقطة الفوز، بعد أداء دفاعى مميز قدمه طيلة ٢١٠ دقائق أمام مانشستر سيتى، فقد أخرج إرلينج هالاند من مباراة الذهاب، ودفع به إلى أسوأ أداء قدمه فى موسمه، وحرمه من أى محاولة لتسلم الكرة أمام منطقة جزاء ريال مدريد.

كما لعب دور الارتداد السريع لفريقه من الدفاع للهجوم، مرورًا بتغطية المساحات بجوار زملائه، وكذلك التحرك لغلق المساحة خلف ظهير الجنب، والشراسة فى الالتحامات الثنائية الهوائية والأرضية، وكان قريبًا من تسجيل هدف الفوز فى الوقت الإضافى وقتل المباراة قبل ركلات الترجيح، التى جعلته رجل اللحظة الحاسمة.

«لا يوجد شىء يجعلنى أسهر ولا أنام سوى وجبة عشاء ثقيلة»، كان هذا رد كارلو أنشيلوتى، فى المؤتمر الصحفى، عما يقلقه قبل مواجهة مانشستر سيتى، الرجل الذى طالب جماهير فريقه بالهدوء لأنهم يشجعون الفريق الأكبر فى أوروبا، استطاع أن يجابه مانشستر سيتى وضغطه الذى لا يتوقف ويصمد أمامهم ٢١٠ دقائق، ويعيد أمجاد «الكاتيناتشو» الإيطالى مرة أخرى، لكن بأربعة أهداف ذهابًا وإيابًا، وليس بهدف واحد.