رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثلاثينية إبادة التوتسى

أسبوع من الحزن والحداد، أحيت به رواندا الذكرى الثلاثينية للإبادة الجماعية، التى ارتكبها متطرفو «الهوتو»، ضد أقلية «التوتسى»، بحضور وفود رفيعة المستوى من ٣٧ دولة، ورؤساء دول وحكومات، حاليين وسابقين، من بينهم الفريق محمود حجازى، مستشار رئيس الجمهورية للتخطيط الاستراتيجى وإدارة الأزمات، وبيل كلينتون، الذى كان رئيسًا للولايات المتحدة، خلال المجازر، والرئيس الإسرائيلى إسحق هيرتسوج، المسئول الأول عن الإبادة الجماعية، التى يجرى ارتكابها، حاليًا، ضد الشعب الفلسطينى!

مائة يوم دامية، شهدت أكبر إبادة جماعية فى القارة الإفريقية خلال العصر الحديث، غير أن البلد الشقيق تغير اليوم، تمامًا، واختفت فيه الهُويات الفرعية، تقريبًا، «فلا هوتو.. ولا توتسى»، بل الجميع «روانديون»، يذهبون، سنويًا، لإحياء ذكرى مجازر التطهير العرقى، أمام النصب التذكارى، الذى أقيم بالعاصمة الرواندية كيجالى، ليكون شاهدًا على واحدٍ من أكثر فصول تاريخ القارة السمراء قتامة وبشاعة.

بـ«الجبن والخذلان»، تعامل «المجتمع الدولى» مع تلك المجازر، طبقًا لتوصيف الرئيس الرواندى بول كاجامى، الذى أضاء، ككل سنة، شعلة النصب التذكارى لضحايا الإبادة الجماعية، قبل أن يتوجه إلى استاد السلام، لإطلاق باقى الفعاليات، التى تنتهى اليوم الأحد. وكان لافتًا أن الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، الذى اعترف سنة ٢٠٢١ بـ«مسئولية» بلاده عن تلك الإبادة الجماعية، اتخذ خطوة إضافية، هذه السنة، بإقراره أن فرنسا كان يمكنها إيقاف المجازر مع حلفائها الغربيين والأفارقة، لكنها لم تكن لديها الإرادة!

تقع رواندا فى شرق وسط إفريقيا، على بعد درجات قليلة من خط الاستواء، وتعد من أكثر الدول الإفريقية ازدحامًا بالسكان. ومع قبيلة أو مجموعة «توا» العرقية، التى تشكل حوالى ١٪ من عدد سكانها، يتوزع باقى الروانديون على قبيلتين أو مجموعتين عرقيتين: التوتسى وتمثل ٢٠٪، لكنها الطبقة الحاكمة التقليدية، وظلت تسيطر على البلاد، سياسيًا واقتصاديًا، لمئات السنين، إلى أن تغلبت عليها، سنة ١٩٥٩، قبيلة «الهوتو» التى تمثل حوالى ٧٩٪ من عدد السكان، وكان ينتمى إليها الرئيس الأسبق «جوفينال هابياريمانا»، الذى تم اغتياله، مساء ٦ أبريل ١٩٩٤، بإسقاط طائرته، فقامت تلك القبيلة بحملة إبادة جماعية ضد قبيلة «التوتسى» وحلفائها المعتدلين من «الهوتو»، بزعم مسئوليتهم عن الحادث.

بعد مقتل حوالى ٨٠٠ ألف شخص، بحسب تقديرات الأمم المتحدة، استطاعت «الجبهة الوطنية الرواندية»، بقيادة بول كاجامى، المنتمى إلى قبيلة التوتسى، أن تنتزع العاصمة من قوات «الهوتو»، وفى يوليو من السنة نفسها، سنة ١٩٩٤، تم تشكيل حكومة جديدة، تعددية برئاسة «باستور بيزيمونجو»، المنتمى لـ«الهوتو» المعتدلين، وتولى فيها «كاجامى» منصبى نائب الرئيس، ووزير الدفاع، لتبدأ بعد ذلك محاكمات طويلة، لمئات المتهمين الذين لم تتسلم رواندا منهم، غير ٢٨ فقط، من الدول التى فروا إليها. إضافة إلى خمسة آخرين، حاكمتهم فرنسا، التى كانت إحدى أبرز وجهات المتورطين فى ارتكاب المجازر. 

قيل إن «كاجامى» كان الحاكم الفعلى للبلاد، قبل أن ينتخبه «المجلس الوطنى الرواندى»، سنة ٢٠٠٠، رئيسًا لحكومة انتقالية، وقبل انتخابه رئيسًا للجمهورية، سنة ٢٠٠٣، فى أول انتخابات رئاسية تعددية. لكن ما يعنينا هو أنه استطاع، خلال السنوات العشرين، أو الثلاثين، الماضية، أن يطوى صفحة الماضى، ويحقق حالة من الاستقرار والسلام، إذ أعاد، مثلًا، تقسيم المحافظات الأربع، المقسمة على أساس عرقى، إلى ١٢ محافظة مختلطة الأعراق. وعليه، لم يكن غريبًا، أو مفاجئًا، أن يتم فتح مدد الترشح للرئاسة، بتعديلات دستورية جرت سنة ٢٠١٥، لتمكينه من الاستمرار لولاية ثالثة، بدأت فى أغسطس ٢٠١٧، وقد تتبعها ولاية رابعة، لو فاز، وغالبًا سيفوز، فى الانتخابات الرئاسية، المقرر إجراؤها فى أغسطس المقبل.

.. وتبقى الإشارة إلى أن الفريق محمود حجازى اختتم زيارة رواندا بلقاء فينسنت بيروتا، وزير الخارجية والتعاون الدولى، ونقل تحيات الرئيس السيسى إلى شقيقه الرئيس بول كاجامى، مثمنًا تجربة رواندا الرائدة فى طى صفحة الماضى بكل آلامه والمضى قدمًا نحو مستقبل قائم على المساواة والتعايش السلمى.