رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وصية «أمازيس» الأخيرة! «١»

رغم وجود اتجاهات نقدية ونزعات فكرية لدى بعض الكُتَّاب والنقاد ترى أن جنس الرواية إنما نشأ من أجل الترفيه والتسلية وحسب، فقد التفتت الدراسات الثقافية والاجتماعية والنفسية إلى إمكانية امتلاك الرواية مفاتيح فهم الكثير مما استغلق فهمه فى حياة البشر والمجتمعات والعالم، ومن هنا لم تعد وظيفة الرواية مجرد التسلية والإمتاع وحسب، كما تصور البعض، وإنما بات يُنظر إليها كمنتج ثقافى مهم. 

فالرواية كانت دائمًا على علاقة بالمعرفة حتى وإن كانت معرفة غير مُباشرة، فهى تدل على الواقع وتضاريسه، وتعكس اضطراباته وتأثيراته العامة على شخوصها ووقائعها وأبطالها، ولو بشكل غير مباشر، وإن كان من المعلوم بالضرورة أن الرواية ليست محض كتاب للتاريخ ومسرد للتطورات والأحداث، فهى إنجاز «تخييلى» فى المقام الأول، وفعل إبداعى يطلق القدرة على الاصطناع والخلق والابتكار، وتُعَرِّفنا مقدمة كتاب «ست نزهات فى غابات السرد» لـ«أمبرتو ايكو» أن الرواية «لا تقول الحقيقة لكنها لا تكذب»، فهى تمنحنا معرفة غير مباشرة، لكنها واضحة ولا اصطناع فيها، وتتسق مع وقائع التاريخ وإن اختلفت فى تفسير دوافعها.

تمثل هذه المقدمة، مدخلًا مهمًا لكى ندلف إلى قراءة أولية لرواية «مصير خبيئة حارسة المعبد»، للأستاذ الدكتور «أحمد جمال الدين موسى»، «السياسى والأكاديمى المصرى، والأستاذ بكلية الحقوق، والرئيس السابق لجامعة المنصورة، ووزير التعليم الأسبق»، وصاحب العديد من الإبداعات فى مجال الرواية والفكر والسياسة، وما كان لشخصية مبدع له هذه الخلفية إلا أن يكون مهمومًا بالدرجة الأولى بهموم وطنه، ومعنيًا بشكلٍ أساسى بما يتعرض له من تهديدات، ويواجهه من تحديات، ومشغولًا بما يتطلب الانتصار عليهما من همّة ووحدة إرادة، ورجاحة فى الفكر وإخلاص فى العمل.

وقد اختار الكاتب أن يبعث إلينا رسالته فى هذه الرواية، من خلال إطلالة إبداعية عميقة على مرحلة فى التاريخ المصرى القديم «ساقطة» من الوعى الجمعى، لا يكاد الاهتمام بها يتجاوز الحدود الأكاديمية المُتخصصة، أو إذا تم تناولها فلا يتعدى ذلك حدود المرور العابر، دون أن يتم بحثها باستفاضة كما ينبغى، فلا نرى اهتمامًا واضحًا بها، فى كتب التاريخ المتداولة، ولا يجرى إلقاء الضوء الكافى عليها فى مناهج التعليم المختلفة، أو تناولها بالفحص والإبانة عبر البرامج الإعلامية، ومقالات الصحف، وأفلام وتمثيليات السينما والتليفزيون، على نحو ما جرى ويجرى بالنسبة للحقبة البطلمية، أو الرومانية، أو العربية، أو العثمانية، أو فترات الاحتلال الأوروبى المُتعددة لبلادنا، على سبيل المثال!

ويأتى فى مقدمة هذه المراحل التاريخية «المُهملة» فترة الاحتلال الفارسى لمصر، بواسطة الإمبراطورية الإخمينية «الفارسية» «٥٥٩ ٣٣٠ ق.م.»، التى كانت قد بسطت سيطرتها على مساحة هائلة من الأرض، امتدت إلى ما يقرب من ٥.٥ مليون كيلومتر مربع، وامتلكت قوة حربية جرارة يحسب لها الحساب.

فبعد أن فشلت محاولات «كورش العظيم»، «الأب»، فى تحقيق «الهدف الكبير»: الاستيلاء على «كِمت» «مصر» المُزدهرة، استطاعت الحملة التى قادها «قمبيز الثانى» «الابن»، والمعدودة واحدة من أهم الحملات الحربية لهذه الإمبراطورية، اجتياح الحدود المصرية «عام ٥٢٥ ق. م»، وتحقيق هذا الإنجاز الاستراتيجى بالغ الأهمية، باختراق جيوش الفرس الصحراء من «بابل» غربًا حتى «ممفيس» العاصمة المصرية، والاستيلاء عليها، بمساعدة «العرب القيادريين»، فى بعض الروايات، تحت قيادة ملكهم «إياس بن مخلى»، من خلال توفير الدعم المادى بالجِمال عابرة الصحراء، ومد جيش الغزو الجرَّار بالمياه الضرورية لمعيشة الجنود فى القيظ، وعبر معرفة «القيادريين» العميقة بمسالك الطرق فى مهالك الصحارى القاحلة، التى اخترقوها عبر شبه جزيرة سيناء حتى الوصول إلى العاصمة المصرية المنيعة!

ويرجع الباحثون أمر دعم الملك القيدارى للفرس، إلى رغبته فى إدامة السيطرة على مسارات الطرق التجارية بين الأقاليم المختلفة فى المنطقة، باعتبارها مصدر الدخل الأساسى ومنبع نفوذه الرئيسى فى محيط ملكه، فيما يرى عالم الآثار المصرى الكبير، «سليم حسن»، أن «قمبيز» حصل على مساعدة لوجستية من «العرب الأنباط» «سكان شمال الجزيرة العربية، وليسوا (أنباط البتراء)».

وأيًا كانت دوافع وذرائع الفرس التى استندوا إليها لتبرير غزو مصر واحتلالها، فقد كان الهدف الرئيسى هو ضم المزيد من الأراضى الغنية بثرواتها وخيراتها للإمبراطورية الخمينية، وتوسيع رقعة الهيمنة الفارسية، وهو «حُلم» متوارث حققه «قمبيز» لأبيه، وفى المقابل فقد كان حاكم «كِمت» آنذاك، فرعون مصر، «أمازيس» «أحمس الثانى» مدركًا نوايا «قمبيز الثانى»، وعارفًا بأطماعه، وواعيًا بجهوده لتعظيم وحشد قواه الحربية، وتهيئة جنده للقتال، ولتحقيق خططه فى احتلال «كِمت» المزدهرة، الوفيرة العطاء، والباذخة الثراء، فضلًا عن موقعها الاستراتيجى الذى لا يمكن تجاهل قيمته، وهو ما حذَّر منه «أحمس الثانى/ أمازيس»: «قمبيز الدموى الغادر، الذى لا يحلم بشىء إلّا بغزو بلدنا.. الخطر القادم وبأسرع مما تتخيلون».

لكن الخطر لا يتوقف عند مجرد احتلال الغازى الأجنبى أرض «كِمت» المقدسة، أو نهب ثرواتها المادية العظيمة وحسب، وإنما الخطر أدهى وأشمل.

نستكمل فى الحلقة المقبلة.