رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الكنز الكبير.. أسرار 25 ساعة تلاوة بصوت «قيثارة السماء»: لم يسمعها أحد من قبل

هناء حسين حفيدة الشيخ رفعت: ترميم تراث جدى عن طريق أسطوانات سجلها زكريا باشا مهران بـ«الجرامافون»

هناء حسين حفيدة الشيخ
هناء حسين حفيدة الشيخ رفعت

- مسحة الشجن فى تلاوته عائدة إلى طفولته القاسية وشعوره المبكر باليُتم

- أبوالعينين شعيشع قال لى: «جدك لما بيخرج من الاستديو جِبّته بتبقى غارقة فى الدموع»

- موهبته ربانية ولم يرثها أحد ولم يجرِ وراء الشهرة أو المال 

يصعُب تلخيص قيمة الشيخ محمد رفعت، مقرئ القرآن العظيم، فى بضع كلمات أو جُمل، فهذه القيمة عصية على الإحاطة، لأن الراحل ودون مبالغة، كان حالة ربانية شفافة، قلّما يجود الزمان بمثلها.

ونستعيد سيرة الشيخ رفعت هذه الأيام، والعالم الإسلامى كله وعشاق التلاوة القرآنية، يحتفلون بانتهاء مشروع ترميم تراث المقرئ العظيم، وهو مشروع طالما حلم به المستمعون، ممن تربوا على صوت الشيخ، أو كما يلقب بـ«قيثارة السماء»، حيث تم ترميم ٢٥ ساعة من تراث الشيخ، ليبدأ البث للتلاوات المرممة بداية من أول رمضان.

وبهذه المناسبة، التقت «الدستور» السيدة هناء حسين محمد رفعت، حفيدة الشيخ رفعت، التى سعت بكل جهدها هى وعائلتها، من أجل إنجاز هذا المشروع، بالتعاون مع الجهات المعنية.

وحكت السيدة هناء كواليس إنجاز هذا المشروع الضخم، والتحديات الصعبة التى واجهت تنفيذه، متطرقة إلى الكثير من القصص والحكايات حول طفولة جدها الراحل، وعلاقته بالقرآن الكريم، وبكبار المقرئين ونجوم الفن فى عصره، وغير ذلك من التفاصيل.

■ بداية.. متى بدأت فكرة ترميم تسجيلات الشيخ رفعت؟

- فكرة ترميم التسجيلات مطروحة من أيام كان والدى وأعمامى على قيد الحياة، فالتسجيلات التى نسمعها لم تكن مسجلة فى استديو أو إذاعة، بل سجلها زكريا باشا مهران لجدى، وكان عاشقًا لصوته، وكان قد اشترى «جرامافون» خصيصًا ليسجل قراءة الشيخ التى تبثها الإذاعة على الهواء مباشرة.

وهذه التسجيلات كانت مليئة بمشكلات فنية، لأن الأسطوانة لم تكن تسجل أكثر من ٣ دقائق، وحين كان يُغير الأسطوانة لاستكمال التسجيل، كانت تسقط منه كلمات، وأحيانًا كانت تضيع آية بأكملها خلال الفترة الزمنية التى يستغرقها تغيير الأسطوانة.

لذا كان ترميم هذه التسجيلات مهمة صعبة جدًا، خاصة أنها تحتاج لجهد وطول بال وصبر، ووالدى وأعمامى حاولوا بقدر جهدهم تنفيذ هذا المشروع، عن طريق التقنية التى كانت موجودة ومتاحة فى ذلك الوقت، أى منذ ٥٠ عامًا.

■ كيف خرج المشروع للنور وكم استغرق ذلك؟

- والدى ذكر لى أن زكريا باشا مهران قد منح الأسرة جميع الأسطوانات، التى كان قد سجلها لجدى الشيخ رفعت من الإذاعة، هدية لأسرته، ومن هنا بدأ أولاد الشيخ، وهم والدى وأعمامى العمل على ترميم هذه الأسطوانات منذ ٥٠ سنة. 

وكتب والدى على الكثير من هذه الأسطوانات أنها لا تصلح، ورغم أن عددها كبير جدًا، إلا أنه كان فى نفس الوقت يقول «حافظوا عليها يمكن ربنا يكرم والتكنولوجيا تتقدم وتقدروا تطلعوا الحاجات دى»، والحمد والشكر لله لأنه بعد فترة طويلة حاولنا استعادة هذه التسجيلات وترميمها، وهى رسالة الشيخ رفعت إلى العالم، وشرف لنا جميعًا كأولاده وأحفاده أن نسعى لتنفيذ ذلك.

ونحن كأحفاده بذلنا مجهودات كبيرة منذ ٢٠ سنة أو أكثر، لخروج هذا المشروع للنور، وأنا لم أترك بابًا أو استديو أو أى طريقة، إلا اتجهت إليها، وكرست ظهورى الإعلامى فى الحديث عن هذا المشروع، وإننا نرغب فى أن تتولى جهة رسمية مشروع الترميم وليس مجرد أشخاص، ليكون لائقًا بالشيخ رفعت وبتراثه، وقطعنا مشوارًا طويلًا حتى ظهور التسجيلات للنور بعد ترميمها.

■ هل حصلتم على تسجيلات جديدة أخرى من معجبيه؟

- لا، كل هذه التسجيلات التى خضعت للترميم كانت لدينا من قبل، وعائلة زكريا باشا مهران وزوجته السيدة زينب هانم مبارك، بذلت مجهودًا كبيرًا، وزكريا باشا كان قد أوصى زوجته بأن توصل هذه الأسطوانات بعد وفاته إلى عائلة الشيخ رفعت، وكانت سيدة كريمة جدًا وتواصلت مع أولاد الشيخ، وأهدتهم كل الأسطوانات التى كانت لديها دون مقابل.

ومرجعنا فى تراث الشيخ رفعت، هو تسجيلات زكريا باشا مهران، وكان له صديق تاجر اسمه محمد خميس، كانت لديه أيضًا تسجيلات للشيخ، إلا أن جودة تسجيلات زكريا باشا كانت أعلى، وإن كانت تسجيلات محمد خميس أيضًا مصدرًا مهمًا لتراث الشيخ، والاثنان يكملان بعضهما البعض، والحمد لله أن يسر لنا هذين المصدرين.

■ قلت من قبل إن مسحة الشجن التى تغلب على صوت الشيخ رفعت مرتبطة بطفولة صعبة عاشها.. حدثينا عن هذا الأمر؟

- كانت طفولة الشيخ رفعت قاسية، خاصة أنه فقد بصره وعمره كان سنتين فقط، وفى عمر التاسعة فقد والده الذى كان يحبه بدرجة لا توصف، فقد كان يحمله دائمًا ولا يرضى أن يضعه على الأرض، وكان كثير الفرح به. ولكن الشيخ رفعت لم يذق هذا الحنان إلا لفترة قصيرة جدًا، ووجد نفسه فى عمر التاسعة مسئولًا عن أسرة كاملة، والدته وخالته وأخته وأخيه، فكافح كثيرًا وطويلًا ليعول هذه الأسرة.

وتعلم جدى الشيخ رفعت فى كُتاب «الشيخ بشتك»، وكافح فى دراسة علم قراءات القرآن وعلم الحديث، وكان يثقف نفسه بنفسه كثيرًا، وهذه المعاناة تركت على نفسه مسحة الحزن والشجن، لذا كان صوته يحرك مشاعر من يسمعه. وكلنا دون استثناء، عندما نسمعه يتحرك فينا شىء ما، وأنا شخصيًا عندما أسمعه تنزل دموعى. 

والشيخ أبوالعينين شعيشع، قال لى ذات مرة: «يا هناء جدك لما كان بيخرج من الاستديو كنا نجد جبته غارقة فى الدموع»، فقد كان يبكى دون صوت كلما كان يقرأ القرآن، وكان جدى يشعر بالقرآن فى قلبه، وهو ما انعكس وظهر على صوته. وكان زاهدًا فى الحياة، ودائمًا ما أقول إن الشيخ رفعت حالة ربانية، فكانت الناس تقول إن صوته كأنه نازل من السماء.

■ بعيدًا عن مكانته الكبيرة بين الناس.. ما الذى يمثله لك الشيخ رفعت كأحد أحفاده؟ 

- لقد ولدت بعد وفاته، لكننى عشت مع سيرته فى بيت والدى، وهو الابن الأصغر للشيخ رفعت، وكان بيحب والده جدًا، وعاش معه ٣٠ سنة، قبل أن يمرض ويتوفى الشيخ، وكان والدى خادمًا له، وكان يقول «أنا خدام القرآن الكريم»، فكنت أرى حياته كلها تتلخص فى سعيه لجمع تراث الشيخ رفعت وصوته، فكان يريد أن يحقق كل ما يخدم والده، ودون أن أشعر «تسرسب» هذا الحب ودخل قلبى، وتملكتنى شخصية الشيخ رفعت الجاذبة. 

وجدى تاج على رأسى، وهو نعمة من الله وشرف لى أن اسمى ينسب له، بل البركة التى تعيش فيها الأسرة كلها، هى بركة القرآن والشيخ رحمه الله. ولم يترك لنا أموالًا ولا أملاكًا، لكنه ترك لنا البركة.

■ هل ورث أحد فى الأسرة موهبة الشيخ رفعت؟

- لا، لم يرث أحد فى الأسرة موهبة الشيخ رفعت، فقد كانت موهبته ربانية، لم يرثها أحد ليس فى الأسرة فقط بل فى العالم كله، وهذا ليس تعصبًا أو محاباة، فحتى من يحاولون تقليده لا يستطيعون حتى الوصول لواحد على الألف من موهبته. 

والشيخ رفعت ليس مجرد حنجرة فقط، بل موهبة ربانية منزلة من فوق، ولذلك دائمًا ما أقول إن مدرسة الشيخ رفعت هى المدرسة الوحيدة بلا تلاميذ، بعكس كل المشايخ الآخرين، لأنه لا يستطيع أحد الاقتراب منها.

■ وكيف كان فى حياته الشخصية؟

- شخصية الشيخ رفعت معروفة للجميع، فقد كان رجلًا زاهدًا، عابدًا، شديد التواضع، فقد كان يعرض عليه السفر لبلاد كثيرة عربية وأجنبية ويرفض، فمثلًا عرض عليه حيدر باشا آباد أن يحيى ليالى رمضان عنده فى الهند بمبلغ خيالى لكنه رفض، وكذلك عرضت عليه إذاعات لندن وباريس وبرلين أيضًا أن يفتتح هذه الإذاعات إلا أنه رفض، فقد كان شخصية متفردة، لا يجرى وراء السفر أو الشهرة أو الأموال، بل كان رجلًا ربانيًا بمعنى الكلمة، وكان هو والشيخ على محمود فى الطريقة النقشبندية الصوفية، وكان شيخهم هو الشيخ محمد أمين البغدادى، وكانت غرفته هى خلوته.

■ ما أهم الحكايات التى سمعتها عنه ولا يمكن نسيانها؟

- سمعت عن الشيخ رفعت الكثير من الحكايات، وكنت فى صغرى أقف عندها وتستوقفنى بدهشة، ومنها حكايات سمعتها من الشيخ أبوالعينين شعيشع، ومن الإعلامى على خليل، الذى كان كبير المذيعين فى الإذاعة المصرية على أيامه، بل سمعت عنه حكايات من الكاتب أنيس منصور، كما التقيت وقابلت العديد من الشخصيات التى حكت لى حكايات كثيرة عنه.

ومن الحكايات أنه استيقظ ذات يوم من النوم ونادى على عمى «محمد» وقال له: «يا محمد حضّر الكارتّة»، وبعد أن ركبا قال له الشيخ رفعت: «اطلع على طول.. حود يمين.. حود شمال»، أى أن عمى كان يمشى بقيادة الشيخ رفعت حتى وصلا إلى شارع «المرسين»، وكان هناك مأتم، فقال لعمى: «انزل ونادى لى ابن المتوفاة»، وبالفعل جاء الابن فقال له الشيخ رفعت: «يا ابنى مش أمك كانت موصياك إنك تجيب الشيخ رفعت يقرا فى عزاها؟»، فرد الابن: «وهو أنا قد الشيخ رفعت.. أنا جايب شيخ على قدى»، فرد جدى: «يا ابنى أنا الشيخ رفعت وجاى أقرا لها، ولو سمحت استأذن لى الشيخ إنى هاجى أقرا معاه».

وهذه القصة التى أستعيدها فى سنى هذه لا أجد لها تفسيرًا إلا أن جدى كان وليًا من أولياء الله.

■ ماذا عن حكاياته مع أم كلثوم وعبدالوهاب؟

- حكى لى أحد الصحفيين فى الأهرام، وللأسف لا أتذكر اسمه، أن أم كلثوم كانت تجلس فى حرملك مسجد فاضل باشا لتتعلم من الشيخ رفعت وتتعرف على مخارج الألفاظ الصحيحة، التى كانت تتعلمها من المشايخ، لكن لم تكن هناك صداقة بينهما، وأعتقد أنه كان هناك نوع من المنافسة بينهما.

أما الصداقة الحقيقية فكانت تجمعه بالأستاذ عبدالوهاب، ويكفى أنه بعد وفاة الشيخ بعشرات السنين كان يقول: «أنا أتحول من صديق إلى خادم تحت رجليه لما يبدأ يقرا القرآن»، وكان وفيًا له جدًا، وكانا صديقين ودائمًا ما يجتمعان معًا، وكان يحضر صالون الشيخ رفعت الذى كان يقيمه كل فترة فى منزله، وهذه العلاقة القوية استمرت حتى بعد وفاته ومع أولاده.

■ كان الفنان الراحل نجيب الريحانى من عشاق الشيخ ومن المواظبين على سماعه.. فكيف كان ذلك؟

- فوجئت بقصة الصداقة بين الشيخ رفعت والفنان نجيب الريحانى بعد أن نشر الأخير مذكراته، وذكر فيها كيف كان متعلقًا بالشيخ، وكيف تحول الأمر لصداقة ممتدة وكانا يخرجان سويًا، وحتى خلال مرض الشيح رفعت كان الريحانى يصحبه فى «الكارتّة» ويتنزهان معًا، ومعهما الكاتب بديع خيرى. و«الريحانى» كتب فى مذكراته أنه انجذب إلى صوت الشيخ رفعت، وكان يريد معرفة الكلام الذى يقوله، حتى إنه ترجم السورة التى سمعها بصوته إلى الفرنسية التى كان يجيدها، ثم تعلق قلبه بالقرآن بصوت الشيخ رفعت.