رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"رأس الحكمة" ومهارة المفاوض المصرى

جريدة الدستور

منذ أن تم الإعلان عن صفقة مشروع تطوير "رأس الحكمة" توالت التأثيرات الإيجابية على القطاعات الاقتصادية.

وفق استراتيجية مدروسة تستهدف الاستفادة من الإمكانات والقدرات تتحرك الدولة في مخططاتها التنموية المختلفة لخلق قيمة اقتصادية مضافة تترجم في شراكات استثمارية كبرى تحقق عوائد اقتصادية وتنموية كبيرة.

وفي هذا الإطار يأتي مشروع تطوير وتنمية مدينة "رأس الحكمة" كأحد النماذج المهمة للشراكات الاستثمارية الإيجابية بين الحكومة والقطاع الخاص كجزء من استراتيجية متكاملة للدولة لتنمية الساحل الشمالي الغربي.

لم تكن "رأس الحكمة" سوى قرية ساحلية هادئة تقع على شاطئ البحر المتوسط، قبل أن تُصبح محط أنظار العالم بعد الإعلان عن صفقة ضخمة لتطويرها وتحويلها إلى مدينة ذكية عالمية.

والمنطقة تتبع إداريًا محافظة مطروح، وتعد من الشواهد التاريخية لبوابة مصر الغربية على الساحل الشمالي الغربي للبحر المتوسط. كانت ميناءً لرسو السفن واستراحة للملوك والرؤساء، وسعت الحكومة المصرية لاستغلال موقعها المتميز لانتشال الاقتصاد المتعثر عبر "صفقة إنقاذ" تعد الأضخم في تاريخ البلاد.

جغرافيًا، تتميز هذه المنطقة بموقع استراتيجي وسياحي جاذب، حيث تقع غرب مدينة وميناء العلمين الجوي، وميناء الحمراء للبترول، وتقع على مقربة من مطاري مرسى مطروح وبرج العرب الدوليين، وتمتاز بمقومات طبيعية أخرى تتضمن مياه البحر الصافية والشواطئ الرملية الناعمة والمتوسطة التعرج، وتتصل بالقاهرة عبر طريق بري يربطها بمدن الساحل الشمالي.

التسمية تعود إلى العصرين اليوناني والروماني في مصر، ومع ذلك، هناك اختلافات كبيرة في الأصل التاريخي لهذه المنطقة. ووفقًا لتقارير منطقة آثار مطروح الرسمية، كانت المنطقة تعرف سابقًا باسم "آبار الكنايس"، وهو مصطلح يشير إلى قمم الجبال والتلال التي يسقط عليها المطر الغزير فـ"يكنسها".

في 23 فبراير الماضي، وقعت مصر والإمارات اتفاق شراكة استراتيجية، يُعد أكبر صفقة استثمار مباشر في تاريخ مصر. قيمة الاستثمارات في المشروع تبلغ 150 مليار دولار، ويتوقع أن يوفر المشروع فرص عمل جديدة ويسهم في تنمية مختلف القطاعات الاقتصادية.

شروط الاتفاق تؤكد مهارة المفاوض المصري، فالعرف أن الاستثمارات المباشرة تأتي على فترات متباعدة خصوصًا إن كانت المبالغ كبيرة نسبيًا كما هو الحال في صفقة رأس الحكمة.

في غضون أسبوع واحد تمكنت الحكومة من الحصول على الدفعة الأولي لصفقة الشراكة الاستثمارية مع دولة الإمارات العربية المتحدة، والتى تقدر بـ10 مليارات دولار. وخلال شهرين ستحصل الحكومة على المبلغ المتبقي الذي تم الإعلان عنه، لاستكمال مبلغ 35 مليار دولار استثمارًا مباشرًا يدخل للدولة من هذه الصفقة، بخلاف نسبة الـ35% التي ستحصل عليها الحكومة المصرية من صافي أرباح المشروع.

المشروع يدخل ضمن مخطط التنمية العمرانية لمصر طويل الأجل، ويهدف إلى جلب نحو 8 ملايين سائح إضافي إلى مصر.

بدوره، أعلن رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي عن تشكيل لجنة وزارية تحت رئاسته، خاصة بمشروع تطوير وتنمية رأس الحكمة، مُهمتها تيسير الإجراءات وتذليل أي عقبات وحل أي مشكلات، والتنسيق بهدف تنفيذ التزاماتنا في هذا المشروع.

وتسعى الدولة لإنجاح هذا المشروع التنموي المهم والضخم، لتكون هذه الشراكة مع الأشقاء في الإمارات نموذجًا لبناء شراكات استثمارية أخرى، تُدر عوائد كثيرة على الشعب المصري.

ومنذ أن تم الإعلان عن صفقة مشروع تطوير "رأس الحكمة" توالت التأثيرات الإيجابية على السوق التي شهدت تحسنًا في الأسعار، بالإضافة إلى تراجع سعر الدولار في السوق الموازية.

في سياق متصل، أكدت وكالة فيتش للتصنيف الائتماني أن اتفاق الشراكة بين مصر والإمارات لتطوير "رأس الحكمة" من شأنه أن يخفف من ضغوط السيولة الخارجية، مما يساعد على إحراز تقدم بصفقة صندوق النقد الدولي التي ستوفر المزيد من النقد الأجنبي.

إبرام الصفقة بهذه الشروط المميزة مكن الحكومة المصرية من استئناف برنامج الإصلاح الاقتصادي المتعثر لشح الدولار بسبب الأزمات الدولية المتعاقبة كأزمة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، إلى جانب العوامل الذاتية الأخرى مثل الاختلالات الهيكلية في بنية الاقتصاد المصرية المتوارثة منذ عقود.

وحسنًا فعلت القيادة السياسية بتأجيل تعويم الجنيه لحين تدفق دفعات الصفقة، فالمبالغ التي دخلت إلى خزينة البنك المركزي زادت المعروض النقدي الدولاري بما حقق التوازن بين العرض والطلب إلى حد ما، ومنعت سعر الدولار من الانفلات أمام الجنيه المصري لا سيما في ظل عطش السوق منذ فترة إلى العملة الخضراء، فالسلطات المصرية لم تكن مطمئنة إلى تعويم الجنيه دون توفر كمية مناسبة من العملات الصعبة لتعزيز الكفاءة والقدرة على مكافحة المضاربة في سعر الدولار.

وحسنًا فعلت القيادة السياسية أيضًا باللجوء إلى هذا النوع من الاستثمارات والابتعاد عن بيع الأصول الإنتاجية لما له من بالغ الأثر على الاقتصاد الوطني ومعدلات التشغيل والبطالة، ناهيك عن سلسلة الآثار الاجتماعية الطويلة لعملية الخصخصة.

باختصار.. صفقة "رأس الحكمة" هي خطوة مهمة في مسيرة التنمية الاقتصادية في مصر. فهذه الصفقة ستشجع على جذب استثمارات ضخمة وخلق فرص عمل جديدة وتحسين مستوى المعيشة للمواطنين، وتحسين مؤشرات الاقتصاد الكلي بشكل عام.

هذه الصفقة يمكن أن تكون نموذجًا يُحتذى به للشراكات الاستثمارية الإيجابية بين الحكومة والشركاء الدوليين من ناحية، وتعزيز دور القطاع الخاص في الاقتصاد من ناحية أخرى، بل ونشجع على إبرام صفقات مماثلة للاستثمار في القطاع السياحي والعقاري، بالطريقة التي يدور بها الكلام حاليًا عن تنمية منطقة "رأس جميلة" على البحر الأحمر، فهذا النوع من الاستثمار المباشر يدر عوائد كبيرة على الاقتصاد، فضلًا عن كونه خاليًا من المخاطر السياسية والاجتماعية.