رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جريمة من الماضى

على قطب
على قطب

الفصل الرابع

النهاية

- إيه قولك بقى أنا هروح للزفت العمدة ده وأفتح دماغه! 

قالها البوسطجى مندفعًا لحسنى، منفجرًا لا يستطيع تمالك أعصابه، قال حسنى:

- عباس، ربنا يعلم أنا بعزك قد إيه، وربنا يعلم برضه أنا شيلت من عليك مشاكل قد إيه، رحمتك من تحقيقات ووقفة مذلة قدام البيه وكيل النيابة، بس أنت دلوقتى ماشى فى حارة سد، بتخبط راسك فى حيطة، أنت اللى هتتأذى مش حد غيرك.

- طب أعمل إيه؟

- كُلْ العمدة بكلمتين، صدقنى ده راجل عبيط زى العيال الصغيرة.

- ده رجل جلف لسانه زفر. 

احتوى حسنى عباس وصحبه إلى العمدة، استسمحه وقبَّل رأسه وأخبره أن كافة شروطه مجابة ولم يكن للعمدة إلا شرط واحد:

- يخلى البيت.

قال حسنى بهدوء: 

- إديله فرصة يدبَّر أموره.

- أسبوع لجل خاطرك يا حضرة المعاون. 

حاول عباس إبداء اعتراضه لكن حسنى أسكته بنظرة وقال: 

- تبعت بكره سويلم يتنازل عن البلاغ.

- عنيّا. 

- وتبعت كام نفر يغيروا الشهادات اللى شهدوها ضد عباس فى البلاغات اللى فاتت. 

قال العمدة بلؤم:

- أنت مش قفلتها يا سى حسنى، إيه لزمته نودى ونجيب، مصاريف وعطلة على الفاضى.

كان عباس يرغب فى قول الكثير، هما دول ناس.. دول عقارب، أسكت نفسه رغمًا عنه بينما حسنى يقول بنبرة تحذير:

- قفلتها ولا مقفلتهاش دى شغلتى أنا يا عمدة.

- يمشى كلامك يا حضرة المعاون. 

قام عباس، مدَّ العمدة يده ليصافحه، تردد عباس فى مد يده، لكن نظرة من المعاون حركتها بشكل تلقائى ليتصافح الاثنان متصالحين، فى طريق العودة كانت ابتسامة حسنى لا تفارقه، شعر بسير كل شىء على ما يرام، لقد قضى على النزاع أخيرًا، لكز حسنى عباس وقال:

- كل شىء عدى على خير.

يجهل عباس ثلاثة أمور تمامًا، الأول هو كيفية شكر حسنى على وقوفه جواره كأخ فى الفترة السابقة، والثانى كيف يتدبر أموره لينتقل إلى بيت آخر فى ظرف سبعة أيام؟ والثالث وهو الأخطر كيف يتجاوز جريمة الماضى وهو يرى ظلها فى كل لحظة؟ 

غافلت جميلة الكل، وتسللت من بيت خالتها إلى بيت خليل فوجدته موصدًا، لا أحد هنا، لا تعرف جميلة أن مريم صديقة العمر مع أخيها خليل بالإسكندرية، وأم خليل باتت بمفردها بسبب أوجاع المفاصل، ولما ضاق عليها الجلوس بمفردها ذهبت إلى أختها لتخدمها، هل تستسلم جميلة؟! شىء ما داخلها دفعها للمواصلة، فكرت ودفعتها قدماها إلى السير حتى الموقف، وللعجب نزلت مصر، بمفردها ودون أى نقود لديها وصلت إلى حيث ترسل خطاباتها، وقفت بجوار شباك بريد الفجالة وانتظرت، انتظرت طويلًا حتى تعبت، أفاقها التعب من الحالة التى تلبستها منذ هربت من البيت، ماذا ستفعل الآن؟ هل ستستأجر مناديًا يجوب القاهرة باحثًا عن خليل؟ هل تسرعت جميلة؟ إنها لم تتسرع، بل هى تنقذ روحها المحبة التى سلَّمتها لخليل أمانة، أخطأت جميلة هذه المرة بانجرافها للبحث عن خليل، كل مرة تلوم نفسها على التسرع وكل مرة تسطر خطًا جديدًا فى كراسة حياتها، والآن.. ما العمل؟ إلى متى الانتظار؟ إلى متى الجلوس هنا؟ هل سيمر خليل ويلاحظها فيبتسم ويقترب منها ممسكًا بيدها ليخبرها أن كل شىء على ما يرام، تتمنى جميلة وهى واعية استحالة الأمر، لو كان خليل متمسكًا بها لجاء غير تاركٍ إياها تغرق فى الوحل، خذلت قدماها الجسد، جلست جميلة، ابنة أسيوط، جوار شباك البوسطة مهملة حتى اصطادتها زوج عيون خبيرة، لاقطة، تبحث عن أشباهها بالمشوار، اقتربت العيون وابتسمت بينما جميلة منكمشة فى خوف. 

أوصل خليل مريم إلى النخيلة ثم تحرك إلى كوم النحل، يرغب فى الاطمئنان على حبيبته، وصل خليل إلى بيت سلامة فوجد الخادمة التى أخبرته بوفاة رب الأسرة وذهاب الأم والابنة إلى النخيلة، تحرك خليل مغادرًا كوم النحل وأثناء سيره مسرعًا مر من أمام شباك مكتب بريد كوم النحل، لم يره عباس الذى كان منهمكًا فى أداء وظيفته، ولم يلحظه خليل الذى شعر أن الدنيا وقعت على رأس حبيبته، لذا لم تتمكن من الرد على خطاباته المتتالية، لما عاد خليل قابلته أم جميلة بوجه أسود، سألها عن حبيبته فأخبرته بوجوم أن جميلة لحقت بوالدها، وكانت الأم صادقة، فجميلة ماتت منذ هربت من البيت، تلك البهيمة مصرة تجيب العار وترجع، لو كانت لسه حامل كنت جايز أفهم، إنما دلوقتى وهى خالية دايرة تدور على خليل ده، ياريته كان ملو هدومه ويستاهل عمايلها دى، رغم كونه مدرسًا، فهو أشبه بالتلامذة الذين يذاكر لهم. خرج خليل وارتكن جوار البيت وانخرط فى بكاء طويل على محبوبته جميلة، وكانت هذه اللحظة الأخيرة له بالفعل فهو لن يراها أبدًا، وسيقل الحزن بمرور الوقت حتى ينساها، هذا هو حال الدنيا الذى ننكره ظانين أنفسنا مخلصين، لكن فى الحقيقة لا أحد مخلص للحزن.

الفصل الخامس

تسليم وتسلم

- الجواب المرة دى لك..

تعجب عباس، كان ساعى البريد مبتسمًا كأنه فتح الخطاب وقرأه، سأله عباس عن المحتوى فقال: 

- بلغونى أنه قرار نقل.. ألف مبروك، أى مكان أحسن من هنا.

أشرق وجه عباس، قرأ القرار، سيعود من جديد إلى القاهرة، ياه، خبر طالما انتظره واستبعده. أتى أخيرًا، الآن بعدما انتقل من بيت العمدة إلى بيت آخر، سيغادر كوم النحل بلا رجعة، هذا المكان الذى لم يشعر فيه بالألفة قط، حاول التأقلم، منح نفسه مسكنات عديدة للصبر ووصل إلى حد النهاية واعتقد انهيار كل شىء، لكن هذا لم يحدث. 

أول من فكر فى إبلاغه بالأمر هو حسنى، بعدما أنهى عمله نزل إلى المركز وقابله، كان غارقًا بين الأوراق، للمرة الأولى يلاحظ حسنى ابتسام عباس، وحين عرف السبب قال:

- مبروك، كده هتريحنى من النزول مخصوص لكوم النحل. 

- الله يبارك فيك، أنا مش عارف أقولك إيه على وقفتك معايا طول المدة اللى فاتت.

أخبره حسنى أنه لا داعى للشكر، وأوجز الأمر فى عناق حار اندمج فيه الصديقان للحظات، قال بعدها حسنى:

- لا تنسانى، ابعت لى جوابات.

- مؤكد.

قال حسنى ضاحكًا:

- بس لا تكتب فيها أى شىء عن الحكايات القديمة، جايز البوسطجى الجديد يكون هو راخر يقرأ الجوابات ويكشف المستور.

لم يضحك عباس على النكتة، لم يتصالح مع نفسه بعد، يحاول التناسى، ومن ثم تخفيف وطأة الحزن، لاحظ حسنى ذلك فربت على كتف صديقه وغيَّر الموضوع قائلًا:

- لما أنزل مصر ليَّا عزومة فى رقبتك.

قال عباس مندفعًا:

- عزومة واحدة بس.. أنت ليك فى رقبتى دين كبير ربنا يقدرنى وأرده.

ابتسم حسنى وقال:

- ما بين الخيرين حساب، أنا وأنت من طينة أخرى غير طينة أهل الكوم دول، ربنا يقدرنى أنا كمان على الانتقال من هنا.

ودع عباس صديقه ثانيًا ورحل، سلم البيت لسويلم، غفير العمدة، الذى أشاع فى البلد كلها أن العمدة هو السبب فى نقل البوسطجى، لأنه عمل رأسه برأس العمدة، لم يهتم عباس بتكذيب الإشاعة أو نفيها، ترك للبلد موضوعًا تتحدث عنه، قبل سفره حاول السؤال عن أهل بيت المعلم سلامة، لكن أحدًا لم يرحه بجواب شافٍ. سلم عباس عهدته إلى البوسطجى الجديد، تمنى له التوفيق، رأى فيه عباس نسخة جديدة منه، تمنى ألا يسبب ذلك الشاب المنقول من الإسكندرية المتاعب لنفسه، أو لإحدى فتيات تلك القرية حين يقرأ خطاباتها. 

عاد عباس إلى ملعبه، القاهرة، عام بعد عام نسى الأمر وتحول لذكرى تؤلمه لوقت قصير، الآن بعد مرور خمس سنوات على الحكاية وأثناء سيره فى شارع عماد الدين لاحظ لافتة براقة عليها صورة لفنانة استعراضية تُدعى جميلة، شعر بها تناديه، أحس نفسه يعرفها، لكنه لم يكن رآها من قبل، وقف عباس أمام الصورة متسمرًا، جميلة اسم يثير داخله الشجون، قرر قطع تذكرة ومشاهدة الاستعراض، كان شىء خفى يدفعه لذلك، شىء لم ولن يعرفه أبدًا، أن جميلة التى دخل الآن لمشاهدة رقصتها هى نفسها جميلة التى طالما انتظر خطاباتها إلى حبيبها على أحر من الجمر.

من مجموعة «ملخص ما سبق» - بيت الحكمة