رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

آرون بوشنل.. دائرة النار الأمريكية

ظهر يوم الأحد ٢٥ فبراير ٢٠٢٤، مشى على مهله طيار أمريكى فى الخامسة والعشرين من عمره قاصدًا مقر السفارة الإسرائيلية فى واشنطن، وهناك توقف ثم أشعل النار فى نفسه، وكان قد قال: «اسمى آرون بوشنل، من القوات الجوية الأمريكية، وأنا على وشك القيام بعمل احتجاجى متطرف، ولكن مقارنة بما شهده الناس فى فلسطين على أيدى الإسرائيليين فإنه ليس عملًا متطرفًا على الإطلاق. إنها إبادة جماعية برعاية أمريكية، ولن أكون متواطئًا بعد الآن فى الإبادة الجماعية». 

بعد ذلك سكب «آرون» سائلًا على جسده وأضرم النار فى نفسه وهو يصيح «الحرية لفلسطين». توفى «آرون» فى اليوم التالى متأثرًا بالحروق الشديدة، ولم يترك سوى وصية يهب فيها كل مدخراته لأطفال فلسطين. توفى فى مطلع الشباب، فى عز الصحة، بل وفى قمة الأمان الاجتماعى، لأنه بعد أن حصل على شهادة فى علوم الحاسوب عام ٢٠٢٠ التحق بالعمل بعدها مهندسًا بقسم البرمجيات فى القوات الجوية الأمريكية. 

نحن إذن أمام شاب ناجح، ولا يتبقى سوى أن ترى وجه آرون بوشنل فى صوره على الإنترنت، وسترى وجهًا جميلًا لشاب يبتسم بطيبة الفلاحين وبنكران الذات الذى يتسم به الإنسان الحقيقى. قبل أن يضرم «بوشنل» النار فى نفسه احتجاجًا على إبادة الشعب الفلسطينى فى غزة، كان يتابع- وفق حسابه فى «فيسبوك»- صفحة «طلاب من أجل العدالة فى فلسطين» التى أنشأها طلاب جامعة ولاية كينت. 

وعندما أشعل بوشنل النار فى نفسه كان يشعلها فى الأكاذيب الأمريكية والدولية التى رافقتها، وفى الصمت الرسمى الذى وقف يتشدق بشتى التصريحات متفرجًا على إبادة مئة ألف إنسان فلسطينى، معظمهم من الأطفال والنساء، وملاحقة ومطاردة مليون آخرين. وبحياته التى ضحى بها رسم بوشنل دائرة النار التى تطوق أمريكا بصحوة الضمير فى كل بقعة من بقاع الأرض. وبالرغم من ذلك واصل الكذب عمله بوقاحة، فأشارت صحيفة «نيويورك تايمز» ضمنيًا إلى أن بوشنل قد يكون مريضًا عقليًا، من دون أن تذكر شيئًا عن سبب احتجاجه أو دوافعه. 

وقد سبق فى مطلع ديسمبر العام الماضى أن أحرق شخص نفسه أمام القنصلية الإسرائيلية فى أتلانتا، «عاصمة ولاية جيورجيا الأمريكية» تاركًا خلفه علم فلسطين، وفى حينه لم تفصح السلطات عن اسم المحتج ولا عمره ولا أى شىء يخصه، لكن هذه المرة كان احتجاج آرون بوشنل فى العاصمة واشنطن، حيث من الصعب التعتيم على الحدث. 

فقط ابحثوا فى الإنترنت عن صورة «آرون بوشنل»، وتأملوا ذلك الوجه الأقرب للطفولة، لكى تصون ذاكرتنا جمال البطولة، عندما تصبح آلام الآخرين كل حياة الإنسان، وكل موته، وكل سيرته التى تفوح بالأمل والشجاعة.