رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"يحرقون البلاستيك ويصابون بالربو".. ثمن آخر للتدفئة يدفعه الفلسطينيون

غزة
غزة

داخل خيمة قماشية مُهترأة نُصبت في العراء جنوب مدينة رفح، تجلس غادة، أم فلسطينية، وأبنائها الثلاثة حول نيران مشتعلة من مواد بلاستيكية أحرقوها بحثًا عن الدفء، إذ جاء الشتاء ببرودة غير محتملة ولا توجد ملابس ثقيلة أو أغطية.

نفس المشهد يُعاد يوميًا إذ تحرق غادة في الليل مخلفات البلاستيك المُلقاة داخل المخيم، بعدما نفد الحطب في قطاع غزة ولم يعد أمامها سواه، تنبعث الأدخنة الكثيفة من البلاستيك يستنشقها الصغار مُجبرين من أجل التدفئة.

 

غلي الماء للصدر بديلًا عن الأعشاب المهدئة

لاحظت غادة سعال ابنها يتكرر، وفي إحدى الليالي بات الصغير لا يستطيع التنفس مطلقًا، والمستشفيات مكتظة بالجرحى والصيدليات خرجت عن الخدمة، ظلت تسقيه الماء المغلي -بلا أعشاب مهدئة- طوال الليل أملًا في تهدئة حلقه دون فائدة.

في الصباح ذهبت غادة إلى مستشفى ميداني في رفح، وهناك شُخص أبنها بالربو، نتيجة استنشاقه المتكرر لأدخنة البلاستيك المحترق، تقول: «لم يكن هناك علاج للربو لا في المستشفيات أو الصيدليات وظل ابني يسعل كثيرًا ولا يجدي معه الماء المغلي».

حتى منتصف فبراير الماضي كان هناك ثلاثة مستشفيات حكومية تعمل جزئيًا في مدينة رفح التي تضم 1.5 مليون شخص، إلا أنها خرجت جميعها عن الخدمة باستثناء أبو يوسف النجار الذي أضحى المستشفى الحكومي الوحيد الذي يخدم المدينة بسعة 60 سريرًا.

 

70% من النازحين يصهرون البلاستيك

تحتضن المخيمات المنتشرة في قطاع غزة على طول الحدود بمدينة رفح تحديدًا آلاف النازحين، الذين كانوا في بداية الحرب يحرقون الحطب للتدفئة حين كان المورد الوحيد لكن مع نقص الكميات المتاحة منه باتوا يحرقون البلاستيك لمواجهة برودة الشتاء، ما أدى إلى إصابتهم بالأمراض الصدرية منها الربو نتيجة الغازات المنبعثة منه.

يدلل على ذلك تقرير برنامج الأغذية العالمي، الذي يوضح أن 70% من النازحين في جنوب غزة يعتمدون على حرق البلاستيك للتدفئة في الشتاء، وهناك 15% فقد يصل إليهم الحطب الذي يعد أكثر أمنًا في الحرق، بينما 15% يصعب عليهم الوصول إلى أي مصادر للطاقة.

أدى ذلك إلى ارتفاع ملحوظ في حالات الأمراض التنفسية بالقطاع والتي بلغت 129 ألف حالة خلال شهري يناير وفبراير فقط، وفق منظمة الصحة العالمية، التي أكدت أن حرق الوقود القذر (البلاستيك) أدى إلى تفاقم الأمراض الصدرية للنازحين.

 

مدير المعهد الوطني: «150 حالة سرطان رئة نتيجة حرق البلاستيك»

يؤكد ذلك الدكتور أحمد حلس  مدير المعهد الوطني للبيئة والتنمية في فلسطين، بأن البلاستيك يمثل أكثر من 95% من النفايات في غزة، لذلك يلجأ النازحون إلى حرقه من أجل الطهي أو التدفئة دون الوعي بالأثر الصحي عليهم من استنشاق غازات حرق البلاستيك.

يقول لـ«الدستور»: «كل السموم الموجودة في النفايات أصلها داخل البلاستيك، إذ يحتوي على مادة الديوكسين التي تخرج منه عند الحرق، وهي مادة عضوية سامة تسبب السرطان لمن يستنشقه لفترات طويلة، كذلك تخرج أكاسيد الكبريت والكربون والفريونات والفورمالديهايد، وكلها مواد عضوية سامة».

البلاستيك تحديدًا يضم مواد بتروكيميائية وصناعية مختلفة ومعقدة وبها أصباغ وغازات شديدة السمية تؤثر على الصحة، وفق حلس، الذي يوضح أن المعهد اكتشف 150 حالة سرطان رئة جديدة منذ بدء حرب طوفان الأقصى.

بحسب الأمم المتحدة، يبلغ عدد النازحين في قطاع غزة 1،9 مليون من أصل 2،4 مليون هو عدد سكان القطاع قبل الحرب.

 

وفاء: «أدخنة البلاستيك تدفئ أجسادنا وتحرق صدورنا»

لم تنتبه وفاء أحمد، فلسطينية تقطن مخيم النصيرات، لكل تلك المخاطر التي يسببها استنشاق أدخنة حرق البلاستيك، فكان كل ما يجول بخاطرها كيفية توفير الدفء لأطفالها، بعدما ضرب الشتاء المخيم بقسوة.

تقول لـ«الدستور»: «نعيش في خيمة بلاستيكية تملؤها الثقوب من كل جانب، والأمطار تغرقها وبرودة الجو في الليل تحديدًا لا تحتمل، يظل أطفالي يرتعشون والحطب نفد من القطاع ولا يوجد أمامي سوى حرق البلاستيك».

مخيم النصيرات يضم 80 ألفًا و194 لاجئًا وبه مركزان صحيان فقط تديرهما «الأونروا»

الملابس أيضًا ليست ثقيلة حتى تقيهم من البرد، ولا توجد أغطية سوى بعض الملاءات الخفيفة تضيف وفاء: «لجأت إلى حرق البلاستيك مجبرة فالأدخنة التي تتصاعد منه تحرق صدورنا، ويظل أطفالي طوال الليل في سعال مستمر دون وجود دواء».

يؤكد تقريرًا صدر من وكالة الأمم المتحدة للمساعدات الإنسانية (أوتشا) منتصف يناير الماضي، أن هناك نقصًا في الملابس والأغطية مع دخول الشتاء، بلغ مليونًا و200 ألف بطانية ومرتبة، وما لا يقل عن 50 ألف خيمة عائلية معدة لفصل الشتاء و200 ألف قطعة ملابس شتوية.

 

نديم فرج: «قد تصل الإصابة إلى السرطان»

ويشرح الدكتور نديم فرج، مدير برنامج التغير المناخي والبيئة في معهد عصام فارس بالجامعة الأمريكية، تأثيرات استنشاق أدخنة البلاستيك في أماكن مغلقة كالمخيمات، بقوله: «حين يُحرق البلاستيك تتطاير منه جزيئات بها مواد كيماوية تسبب أمراض الصدر مثل الربو وسرطان الرئة، وتؤثر على النمو العصبي والغدد الصماء ووظائف الإنجاب».

يوضح لـ«الدستور» أن قطاع غزة لا يوجد به الآن غازًا أو مازوتًا والحطب أصبح نادرًا، وأكثر شيئًا موجودًا هو البلاستيك من فراغات الجالون وخراطيم المياه، وحين يُحرق تتسرب جزئياته إلى مياه الشرب، وتتفاعل وتنتج رصاص وزئبق سام ومادة الدياكسون المسرطنة، التي تسبب ضعف في النظر والوعي.

كما أن حرق البلاستيك يؤدي إلى خروج ثاني أكسيد الكربون وهو من الغازات الدفينة، واستنشاقها بكثرة يصيب بسرطان المخ، في وقت خرجت فيه أغلب المستشفيات في غزة عن الخدمة.

 

حنين: «يد ابني تغطيها الجروح من تكسير البلاستيك»

كانت المرة الأولى التي تلجأ فيها حنين عامر، فلسطينية، وأم لأربعة أطفال، إلى حرق البلاستيك، حين اشتدت الرياح في مخيم النصيرات واقتلعت الخيمة البلاستيكية التي كانت تأوي العائلة: «الخيمة قريبة من البحر مما يزيد من برودة الطقس وقت الليل، نشعر كأننا سنتجمد من انخفاض الحرارة في الشتاء».

توضح حنين لـ«الدستور» أنها لم تجد وسيلة للتدفئة سوى حرق الأواعي البلاستيكية المُلقاة من الأهالي، بعدما ارتفع سعر الحطب وعدم توافره: «نختنق كل ليلة من رائحة البلاستيك، وكل أطفالي أصبحوا مرضى بالسعال والربو».

ليس ذلك فحسب بل أن نجل حنين الأكبر 10 أعوام تغطي الجروح يديه، بسبب تكسيره البلاستيك إلى قطع صغيرة حتى يشتعل وينصهر، إذ يحصل عليه من برك الصرف الصحي وتناثر أواعي بلاستيكية عند الحدود، يحفر كل يوم ويحصل عليها ثم يقطعها بالسكين، فالجروح تغطي يديه والسعال يملأ صدره.

هناك أكثر من ألفي حالة شهرية مرتبطة بأمراض الجهاز التنفسي يوثقها المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، وفقًا لتقارير وإفادات من أطباء ومسئولين صحيين ومنظمات إغاثية دولية.

بينما يؤكد سليم عويس، مسؤول الإعلام باليونيسف في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لـ«الدستور»، أن هناك أكثر من 160 ألف حالة إصابة بالتهابات الجهاز التنفسي الحادة بسبب الدخان منذ بداية الحرب على غزة.

رئيس الرابطة الطبية يشرح آثار حرق البلاستيك

ويرجع الدكتور حسن الطراونة، استشاري أمراض الصدر، ومدير مكتب الرابطة الطبية الأوروبية الشرق أوسطية، زيادة حالات أمراض الصدر في القطاع إلى عمليات حرق البلاستيك، التي تؤدي إلى إطلاق غازات «لديوكسينات والزئبق»، وتؤثر على الجهاز التنفسي لمن يستنشقه لفترات طويلة وبشكل مكثف.

يقول لـ«الدستور»: «كما تؤدي الجسيمات الدقيقة العالقة في الهواء؛ نتيجة حرق البلاستيك مثل غاز الكربون وغيره إلى تهيج المجاري التنفسية العليا، والجيوب الأنفية، وضعف المناعة الداخلية للجهاز التنفسي على الأمد البعيد».

وتضر الانبعاثات التي تخرج من حرق البلاستيك بالأغشية المخاطية وتزيد من احتمالية حدوث نوبات الربو، وقد يصل الأمر إلى سرطان أو تلف الرئة مع استمرار التعرض للانبعاثات، وفقًا للطراونة.

ويشرح: «يحدث ما يسمى بالإنسداد الرئوي المزمن حين يتعرض الجهاز التنفسي للإنسان لكميات ضخمة من الانبعاثات، ويلاحظ أن السكان الذين يعيشون في الأماكن المغلقة كالخيم ويتعرضون لاستنشاق تلك الانبعاثات هم الأكثر عرضة للإصابة بالأمراض التنفسية».

تشير بيانات وزارة الحكم المحلي في فلسطين خلال العام 2022، إلى أن كمية النفايات الصلبة التي تخرج من فلسطين سنويًا تقدر بحوالي1.7 مليون طن، 1.1 مليون طن من الضفة الغربية، و0.6 مليون طن من غزة، بينما مخيمات اللاجئين تنتج حوالي 0.72 طن من النفايات البلاستيكية.