رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من بيع مصر للإمارات.. إلى ضياع المليارات دون حل للأزمة الاقتصادية

محمد الباز يكتب: رد الشبهات عن مشروع تطوير رأس الحكمة

د. محمد الباز
د. محمد الباز

لم أفعل مثل الكثيرين الذين بدأوا بالتشكيك فى مشروع تطوير رأس الحكمة من اللحظة الأولى للإعلان عنه عبر بيان رئاسة الوزراء الذى كشف ملامح المشروع الأولى مساء الخميس ٢٢ فبراير ٢٠٢٤. 

كنت أعرف بعض ملامح المشروع عندما حدَّثَنا عنها مسئول كبير بالدولة جمعنا به لقاء موسع ضم عددًا كبيرًا من الإعلاميين. 

كان سؤال الجميع وقتها حول الأزمة التى نمر بها، وعن مراوغات الدولار التى لا تنتهى. 

فقال لنا: قريبًا جدًا سنكشف عن أكبر مشروع استثمارى فى تاريخ البلاد، سمى لنا المشروع، بل عرض علينا الرسم التخطيطى له، ووقتها قال ممازحًا: أرجو عندما يتم الإعلان عن المشروع ألا يقول أحد إننا نبيع مصر. 

وكأنه كان يقرأ تفاصيل كف المواطنين. 

فقد سارع كثيرون، ممن نعرف توجههم وعلى أى أرض يقفون، بالتشكيك فى كل ما يتعلق بالمشروع، ورغم أن رئيس الوزراء، الدكتور مصطفى مدبولى، أعلن عن التفاصيل فى المؤتمر الصحفى الذى ضم الجانب الإماراتى مع الجانب المصرى أثناء توقيع الصفقة، فإن هناك مَن لا يزالون يشككون ويطالبون بالكشف عن التفاصيل، وكأن ما تم الإعلان عنه لم يكن كافيًا. 

لن أعيد ما قيل مرة أخرى، ولن أتشفع بالمعلومات التى أكد عليها رئيس الوزراء فى مقر المجلس بالعاصمة الإدارية الجديدة يوم الجمعة ٢٣ فبراير ٢٠٢٤. 

كان المؤتمر الصحفى موفقًا فى مكانه وتوقيته. 

ففى اليوم التالى لإعلان الصفقة، كان لا بد من الإعلان عن تفاصيلها، حتى لا نترك الساحة خالية لمن يحللون دون معلومات، ومن يفسرون دون معرفة. 

وكان المكان مناسبًا، فمصر تعلن عن مشروعاتها المقبلة من أرض مشروعاتها القائمة التى تحولت من حلم إلى حقيقة. 

ما يشغلنى هنا هو رد الشبهات عن مشروع تطوير رأس الحكمة، وهى شبهات يتداولها الناس غير منتبهين إلى أنه تم الرد عليها خلال حديث رئيس الوزراء وخلال إجاباته عن الأسئلة التى وجهت إليه خلال المؤتمر، والتى ألقاها عليه الزميل الإعلامى أحمد أبوزيد، أحد نجوم قناة القاهرة الإخبارية. 

وقد تسأل: وهل نحن فى حاجة إلى إعادة التأكيد على ملامح هذا المشروع؟

سأقول لك: نحن فى حاجة دائمة إلى الإلحاح بالحقيقة على الناس حتى نطرد من عقولهم الباطل والأباطيل التى يُصر كثيرون على زرعها فى رءوس الناس ورعايتها حتى تتحول إلى واقع، صحيح أنه طوال الوقت واقع خطأ.. لكنه على أى حال يتحول إلى واقع. 

الآن ما رأيكم أن نقرأ معًا بعض الشبهات التى تحلق حول المشروع الكبير، ونحاول معًا أن نردها، ونرد عليها؟ 

 

الشبهة الأولى: مصر تبيع أرضها إلى المستثمرين الإماراتيين 

عندما تعيد النظر فى المشروع الذى دخلت فيه الإمارات كشريك- وهذه حقيقة مهمة- ستجد أنها بالنسبة لمصر مستثمر كغيرها من المستثمرين الكبار، مثل السعودية وبريطانيا والاتحاد الأوروبى، فهى لا تنفرد بالاستثمار فى مصر، ولا يأتى هؤلاء المستثمرون إلى مصر، إلا لأنها تمتلك بالفعل فرصًا استثمارية واعدة، فلا أحد يمكن أن يرمى بأمواله، خاصة إذا كانت بهذا الحجم، فى أرض بور. 

ما جرى ليس بيعًا للأرض، ولكنه استثمار بالمشاركة، وهو أمر معتاد فى مختلف الاقتصادات العالمية وفى منطقة الشرق الأوسط. 

لن نذهب بعيدًا، ففى الدول التى تستثمر فى مصر مثل بريطانيا وتركيا وإيطاليا والسعودية والإمارات يمكن للمستثمرين شراء الوحدات السكنية والأراضى وغيرهما دون عناء، بل إن هذه الدول تقدم حوافز استثمارية عديدة لمن يقدمون على ذلك، فهل نعتبر ما يحدث هناك حلالًا لهم وحرامًا علينا؟ 

لا تنفرد مصر بما تفعله إذن، بل تسير على خطى دول العالم المختلفة فى الاستثمار، لا تأتى ببدعة جديدة، فكل دول العالم تتسابق بل وتتنافس لتعظيم الاستثمار الأجنبى المباشر. 

إن الذين يروجون الآن لشبهة بيع مصر لأرضها للمستثمرين الإماراتيين أو غيرهم، هم الذين طالبوا قبل ذلك أن تتخارج الدولة من المشروعات، والغريب أن الدولة عندما تفعل ذلك طبقًا للقانون المصرى ونزولًا على شروطه يعاودون الصراخ بأن مصر تبيع أرضها. 

فماذا يريدون بالضبط؟ 

هل يريدون أن تتخارج الدولة؟ أم يرغبون فى أن يبقى الحال على ما هو عليه؟ 

مصر، وطبقًا لذلك، لا تبيع أراضيها، لكنها فقط تسمح بالاستثمار وتخلق بيئة تجذب الاستثمارات المختلفة، بما يحقق مصلحتها ويحافظ على أمنها القومى. 

الشبهة الثانية: الصفقة تمت على عجل بسبب الأزمة الاقتصادية

الحقيقة أن هذه الصفقة لم تكن بنت اليوم، ولكنها مرت بمراحل عديدة وأخذت وقتها، ومن يقول إنها تمت على عجل لا يعرف ما جرى خلف الكواليس، فقد تمت دراستها بتأنٍ شديد، وتم حساب كل شىء، وعرف المفاوض المصرى ما الذى يمكن أن يحققه لمصر وشعبها. 

فمشروع تطوير رأس الحكمة جاء ضمن مخطط يتم تنفيذه فى إطار استراتيجية الدولة لتطوير الساحل الشمالى الغربى، وعليه فهو ليس مشروعًا مفاجئًا، وإنما يأتى فى إطار تخطيطى عمرانى للمنطقة، ويتم العمل عليه فى سياق الشراكة بين القطاعين الحكومى والخاص، المحلى والأجنبى، بما يحقق الجاذبية المطلقة لساحل البحر المتوسط، وسيكون نموذجًا للاستثمار فى مناطق أخرى. 

وحتى يطمئن الجميع، فإن المشروع لم يأت تحت إلحاح التخلص من الأزمة الاقتصادية الطاحنة، فالحديث عن تنمية منطقة رأس الحكمة وعرضها للاستثمار الوطنى والأجنبى كان مرتبطًا ومخططًا له قبل الأزمة الحالية، وتحديدًا منذ الإعلان عن المخطط فى ٢٠١٨، ويمكن العودة إلى الأرشيف الصحفى للتأكد من ذلك، فلا شىء يتم فى الخفاء، ولا شىء يتم بشكل متعجل. 

الشبهة الثالثة: ضخامة الإعلان عن الصفقة لتحصينها من النقد

بمنتهى الشفافية، وهو ما لم يحدث بشأن هذا المشروع وحده، ولكن يحدث فى جميع المشروعات ما صغر منها وما كبر، ثم إن الحديث عن هذا المشروع كإنجاز أمر لا يفارق الواقع فى شىء، فهو بالفعل إنجاز كبير يجب تحية القائمين عليه. 

هو- للإنصاف- إنجاز من حيث حجم الاستثمار المباشر- ٣٥ مليار دولار- ومن حيث عوائده على القطاعات المختلفة بشكل مباشر أو غير مباشر، ومن حيث توفيره للنقد الأجنبى وتوفير فرص العمل لعشرات الآلاف من المواطنين، ومن حيث تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وهذا هو الأهم بالنسبة لهذا المشروع ولغيره من المشروعات الأخرى. 

الشبهة الرابعة: المشروع مُحصّن من أى بطلان

لقد تم الترويج بصورة كبيرة أن مشروع تطوير رأس الحكمة يعمد إلى بيع أراضى الدولة، وأن الدولة عمدت إلى إجبار المحكمة الدستورية العليا على تحصين جميع معاملات الرئيس المالية وعقود البيع التى تبرمها الإدارة المصرية مع أى جهة خارجية من أى طعن أمام أى محكمة وحظرت على القضاء بأكمله قبول أى دعوى فى هذا الشأن. 

هذا كلام لا يمكن أن يقوله أى عاقل، ولا يمكن أن يتبناه أى إنسان يمتلك ولو قدرًا ضئيلًا من المنطق. 

فالرئيس لا يتصرف فى أمواله الخاصة، والحكومة لا تدير أملاكها الذاتية، ولكنها تعمل فى أموال الشعب، وهذه الأرض ملك للشعب، ثم إن القضاء فى مصر- وعلى رأسه المحكمة الدستورية العليا- لا يمكن أن يخضع لما يخالف الدستور. 

لقد كرر رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولى أكثر من مرة أن الصفقة أبرمت وفقًا للقانون المصرى، فأى خلاف بين الشركاء فيها سيكون من شأن القضاء المصرى وحده أن ينظر فيه، لن يكون هناك تحكيم دولى، وأعتقد أن الجانب الإماراتى لم يخضع لهذا الشرط إلا لثقته المطلقة فى جدية التعاون، ولثقته أيضًا فى القضاء المصرى وأنه ليس قضاءً مسيسًا على الإطلاق، فإذا حدث خلاف، فلن يعدم الجانب الإماراتى وسيلة ليحصل على حقه كاملًا. 

الشبهة الخامسة: المشروع تم دون دراسة جدوى

هذه أيضًا ليست شبهة بقدر ما هى إفك كامل، وأعتقد أن مسألة دراسات الجدوى التى يتم نفيها عن المشروعات المصرية ليست إلا كذبة كبرى من اختراع من لا يريدون لهذا البلد أن يتقدم، ولو خطوة واحدة إلى الأمام. 

وهنا قد يكون من المهم أن أعيد على حضراتكم ما يعرفه الجميع لأنه معلن، لكن يبدو أن قومى لا يقرأون. 

فهذا المشروع يأتى ضمن مخطط الدولة لتنمية المحور الغربى لمصر وتحديدًا الساحل الشمالى الغربى، وهناك مخطط تم وضعه ويتم التنفيذ فيه منذ سنوات، من مشروعات بنى تحتية ومشروعات صناعية وزراعية، وإنشاء مدن كالعلمين الجديدة، والنجيلة والموانئ البحرية وحتى القواعد العسكرية كقاعدة محمد نجيب العسكرية وقاعدة ٣ يوليو. 

وليس خافيًا على أحد أن مصر تمتلك بالفعل خططًا للتنمية لعام ٢٠٣٠ وكذلك مخططًا للتنمية العمرانية لعام ٢٠٥٢، وأن جميع المشروعات الاستثمارية المطروحة على الدولة تأتى فى إطار هذا المخطط، وهو مخطط لا يقوم فقط على التنمية السياحية، ولكنها تنمية متنوعة تصب فى النهاية تجاه تطوير العديد من المجالات الأخرى. 

والشاهد أن مصر درست هذه الصفقات الاستثمارية جيدًا وبشكل شامل، إلا أنها لا تعلن عنها إلا مع الانتهاء من الدراسات بشأنها وتوقيع العقود لتدخل حيز التنفيذ، فنحن لسنا أمام دولة شو، تسعى إلى أخذ اللقطة فقط وينتهى بعد ذلك كل شىء، ولكننا أمام دولة تحرص على أن يقترن كل إنجاز بتحرك فعلى على أرض الواقع وبخطوات جادة. 

هل أقول لكم شيئًا عن مقاصد الدولة من هذه المشروعات؟ 

أعتقد أن هذا أصبح لازمًا الآن. 

إن التنمية المستدامة التى تسعى وراءها الدولة المصرية والتى تحققها بالفعل فى المدن الجديدة، ومنها المشروعات السياحية مثل مشروع العلمين الجديدة، ومشروع تطوير رأس الحكمة، وغيرهما من المشروعات الاستثمارية- تهدف من خلالها لتوفير آلاف فرص العمل وزيادة استيعاب الأيدى العاملة المصرية، وإنعاش قطاعات أخرى منها الصناعة والزراعة والتصنيع الزراعى وتشغيل العديد من الشركات المصرية التى تعمل بها الأيدى العاملة المصرية، هذا بخلاف ما تدره هذه المشروعات من نقد أجنبى، سواء بعوائد الاستثمار أو الجذب السياحى، وهى أموال تدخل إلى خزانة الدولة، وينفق منها على قطاعات أخرى مثل الصحة والتعليم. 

هناك ما هو أكثر، فهذه المشروعات تسعى إلى خلق مجتمعات عمرانية جديدة، تكون قادرة على استيعاب الزيادة السكانية المهولة التى لا تريد أن تتوقف، وأعتقد أن هذا حل عملى لاستيعاب القدرات البشرية الهائلة للشعب المصرى بدلًا من إهدارها وعدم الاستفادة منها. 

الشبهة السادسة: عوائد المشروع ستضيع ولن تحل الأزمة

مَن يثير الأمر بهذه الصورة لا يريد أن نصل إلى حل لأى مشكلة، ولا الخروج من أى أزمة، فالذين يطالبون الحكومة بأن تجد حلًا يسارعون بالتشكيك فى نواياها وإجراءاتها، وهو أمر لا يفعله فى الحقيقة إلا المحبطون، الذين أصبحوا غير قادرين على الخروج من أزماتهم الشخصية، فما بالك بالخروج من أزمات الوطن! 

من مصادر قريبة من إجراءات هذه الصفقة سمعت أن عوائد هذا المشروع ستسهم بشكل سريع وعملى فى مواجهة أزمة نقص السيولة الدولارية، كما أنها ستعطى قوة دفع كبيرة للاقتصاد المصرى وتدعم المباحثات الجارية مع صندوق النقد الدولى، كما أن هذه العوائد سيكون لها أثر واضح فى إنهاء تكدس البضائع فى الموانئ، وهو ما سيؤثر بشكل إيجابى كبير على انخفاض الأسعار. 

فكما أن هناك خطة للصفقة، فهناك خطة كذلك لتوجيه عوائدها، وأعتقد أن هذا هو ما يشغل الناس بالمقام الأول، وهو أمر لا تخفيه الحكومة، لكن الإجراءات تأخذ وقتًا، وأعتقد أن هناك آفة عامة أصبحنا نعانى منها الآن وهى استعجال النتائج، فالنتائج حتمًا ستأتى، لكن هناك من يريد لها ألا تأتى أبدًا، وهؤلاء يسارعون إلى التشكيك والحديث عن الثقة المفقودة، وهو حديث لا يتداوله إلا المرضى الذين لا يرون خيرًا قادمًا أبدًا، وكأن القاعدة فى الحياة هى اللون الأسود فقط. 

الشبهة السابعة: مصر تفتح ذراعيها للمستثمر الأجنبى وتتجاهل المحلى

هذه أكذوبة أخرى تبددها الحقائق التى أعلنت على هامش مشروع تطوير رأس الحكمة، فالدولة فعليًا تعمل على تعظيم نسبة القطاع الخاص فى الاقتصاد القومى، وتعمل للتخارج من المشروعات الاستثمارية وتطبيق توصيات وثيقة ملكية الدولة وزيادة الطروحات الحكومية، وقد ألزمت الدولة نفسها بدعم القطاع الخاص وزيادة استثماراته إلى نسبة ٦٥٪ من إجمالى استثمارات الدولة، كما أنها لن تدخل فى شراكات استثمارية جديدة لتحقيق التنمية وتعزيز قدرة الاقتصاد على مواجهة أى تحديات آنية أو تقلبات مستقبلية. 

الغريب أن من يقولون ذلك هم أنفسهم من روجوا الشائعات عن الدولة عندما بدأت مشروعات استثمارية حقيقية، وقالوا إنها تبيع أراضى الدولة، وهو تناقض غريب يجب أن ينتبه له من يقومون به ويقعون فى فخه. 

إن مشروع تطوير رأس الحكمة يمنح المستثمر المحلى فرصة كبيرة، فالشركات التى ستقوم بتنفيذ المشروع كلها شركات محلية، وهو ما سيحدث أيضًا فى مخطط تنمية مدن النجيلة وجرجوب ومرسى مطروح والسلوم، فلا يستطيع أحد أن يستبعد المستثمر المحلى، ولكنها شراكات تتسع للجميع، لكن يبدو أن هناك مستثمرين محليين يغذون هذه الأقاويل، ربما لأنهم لم يدخلوا هذه المشروعات، مع العلم أنهم يشاركون فى مشروعات أخرى، بل ويحققون منها أرباحًا هائلة. 

قد يكون لديك بعض الأسئلة المشروعة حول هذا المشروع الكبير، بل الأكبر فى تاريخ مصر. 

وإذا أردت نصيحتى، لا تترك نفسك لمن يروجون الأكاذيب ويطلقون الشائعات.

لأنهم لا يريدون خيرًا لك ولا لمصر.

استفتِ قلبك، كما يقولون.

وحاول أن تطمئن إلى أن هذا النظام يريد أن ينجح، وهذه الحكومة تريد أن تتفوق، ولذلك فما يفعلونه لصالح الجميع، لأن نجاح النظام واستمرار الحكومة مرهون بشىء واحد فقط هو رضا الناس وتحقيق مصالحهم.