رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ذكرى العزيز علاء الديب

لو أن الظروف كانت قد أسعدتك بالتعرف إلى شخص الكاتب الكبير علاء الديب، والتردد عليه فى الفيلا الصغيرة التى كان يسكنها فى المعادى، والجلوس معه فى شرفته المطلة على حديقة صغيرة هادئة لرأيت كيف كان الديب وهو يشرب قهوته يختلس نظرات محبة سريعة إلى الحديقة، فتبدو الحديقة كأنها امتداد هامس لروحه العذبة. رحل عنا علاء الديب فى ١٨ فبراير ٢٠١٦، وهو ملء السمع والبصر روائيًا وناقدًا، ترك ثلاثية روائية «أطفال بلا دموع» و«قمر على المستنقع»، و«عيون البنفسج»، علاوة على قصص «المسافر الأبدى» ورواية «أيام وردية»، وكتبًا أخرى منها «وقفة قبل المنحدر». 

بدأ علاء الديب فى شق طريقه الأدبى عندما نشر أول قصة له «الشيخة» عام ١٩٦٢، ثم صدرت مجموعته الأولى «القاهرة» فى ١٩٦٤، وتلتها الثانية «صباح الجمعة» فى ١٩٧٠، ثم توالى إنتاجه الأدبى. فكريًا ينتمى الديب إلى قيم الوطنية المصرية التى تشكلت قبل ثورة يوليو ثم رسختها الثورة: الاستقلال، التصنيع، العدالة الاجتماعية، العداء للاستعمار ودعم حركات التحرر وفى المقدمة منها فلسطين التى تشغل مكانة خاصة لدى شخصيات علاء الديب فى تأملاتها وأحاديثها. وعلى سبيل المثال فإن فلسطين لدى أمين الألفى بطل رواية «أيام وردية» هى «عامل مساعد يكشف به الصدق من الكذب» بل وفلسطين دائمًا «تسد حلقه، كأنما هو الذى باع، والذى خان، هو الذى مات، وهو الذى صمد مثل الشجر، هو الذى انفجر واستشهد، هو الذى تشرد وحوصر وقاتل وقتل». 

ومنذ روايته الأولى «القاهرة» عام ١٩٦٨ يطرح الديب بقوة غربة وانكسار المثقف بعد النكسة، والاستسلام للشعور باليأس الذى تجسده شخصية «فتحى»، الذى يحيا مع زوجة لا يرى فيها سوى أنها «إطار كاوتش لم يعد صالحًا للاستعمال»، وعندما يقتل فتحى زوجته ويدافع عن نفسه أمام المحكمة نقرأ دفاعه أقرب ما يكون إلى بيان انسحاب المثقف، وهزيمته، بل وانتحاره بعد نكسة ١٩٦٧، بعد أن انزوى حسب اعتقاده «كل وجه نبيل وكل قيمة شريفة». 

وسنرى فى كل أعمال الديب اللاحقة ثمار النكسة- بعد نحو ربع قرن من وقوعها- وقد تجسدت وأصبحت جزءًا من التكوين النفسى والفكرى للبشر الذين تشبعوا بالمرارة والانتهازية والهروب من كل مواجهة، والشعور بأنه ما من مخرج وما من ضوء فى نهاية النفق. وبينما يشير الديب إلى الظروف التاريخية التى خلقت كل ذلك، فإنه فى الوقت ذاته لا يعفى الإنسان من المسئولية الشخصية الأخلاقية عما أصبح عليه وجوده. 

يقول علاء الديب فى أوراقه إن والده «كان ينقل إلى جليسه محبة وسكينة». هذا بالضبط هو الأثر الذى كان علاء الديب يتركه فى نفوس أصدقائه: المحبة والسكينة، لكنها مشبعة بشجن عميق وأسى على أحوال العالم والبشر. ظل الديب على مدى أربعين عامًا يقدم فى الصحافة باب «عصير الكتب» ويعرف القراء بالأدباء الجدد والكتب الجديدة بدأب وصبر. بقدر ما أتاحت لى الظروف أن أجلس معه لم أسمع منه قط كلمة «أنا»، ولا أى إشارة عابرة لأعماله، فقط كان يحدق بالجالس أمامه باهتمام ويسأله: «كتبت حاجة جديدة؟» أو يتناول كتابًا ويدفع به إليك قائلًا: «اقرأ قصص هذا الشاب، ممتاز». 

رحل علاء الديب عن عالمنا وبذلك فارقنا إنسان تمتع بموهبة فريدة هى حب الناس، وكاتب تجاوز دائمًا النقص فى محاولات الآخرين، متطلعًا إلى احتمالات النضج والكمال، وكأنه يقول لنفسه: ربما يحل اليوم الذى يصبح فيه البشر أفضل والأدب أجمل، وفى انتظار يوم كهذا يمكن التشبث حتى النهاية بحب الناس والأمل.