رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هانى الناظر.. فى وداع «مثقف حقيقى» و«طبيب عظيم»

هانى الناظر
هانى الناظر

كان ذلك فى واحدة من ليالى كورونا الكئيبة.

الساعة تشير إلى الواحدة صباحًا، وحظر التجوال قد بدأ منذ ساعات.

داهمتنى آلام شديدة فى الصدر مصحوبة بارتفاع مفاجئ فى درجات الحرارة، وفى أجواء الرعب، التى انتابتنا وقتها، شعرت بالألم كما لو كان مضاعفًا، ودرجة الحرارة وكأننى أعيش بالقرب من الشمس!

لم أقدر على فعل شىء.

فلا طبيب متاح، ولا مستشفى قريب، ولا حتى إمكانية للخروج.

لم تكن أمامى إلا مواقع التواصل الاجتماعى للبحث عن أى توصيات أو مساعدة الصباح.

وفجأة ظهر هذا الرجل أمامى.

لم يعرفنى من قبل ولا أعرفه، ولم نتحدث أبدًا، وما يجمعنى به متابعتى صفحته على «فيسبوك».

دون مقدمات تركت رسالة فى «الإنبوكس».

ولا أتذكر أننى قدمتها بمساء الخير أو حتى ألقيت السلام.

فقط قلت له ما أشعر به.

ولم تمر سوى دقائق حتى جاءتنى رسالة منه، يهدئ من روعى أولًا، ثم يشرح لى ما الذى يجب أن أفعله بالضبط.

طمأنتنى كلماته بعض الشىء، ومضت الليلة بسلام بفضله.

شكرته كثيرًا.. ولم يرد إلا بكلمتين.

«تحت أمرك».

تذكرت ما جرى بينى وبين الدكتور هانى بعد أن صدمنى خبر وفاته أمس، عقب شهور من المواجهة مع المرض اللعين، وهى مواجهة غيبته قسريًا عن محبيه ومتابعيه فى «ساحة الخير».. وأقصد صفحته على «فيسبوك».. التى حولها إلى «عيادة أونلاين»؛ يتلقى الأسئلة من الجميع ويقدم إجابات علمية وافية.. دون أى مقابل.

وحين أفاق- فى مرة نادرة- من «وجع الكيماوى» كان أول ما فعله أن كتب على صفحته: «فرصة حلوة.. السيدات والسادة الأفاضل أصحاب الأسئلة والاستشارات الطبية.. أنا حاليًا خلال هذه اللحظات فى راحة مؤقتة من الأدوية والمحاليل والكيماويات وبالتالى ممكن أستقبل مجموعة من أسئلتكم وربنا يقدرنى وأتمكن من الإجابة عن عدد مناسب منها.. اتفضلوا».

أدهشنى وقتها، وتساءلت عن القدرة التى تحركه لتحمل أوجاعه.. فقط حتى لا يغيب عن مساعدة الآخرين.

وفى تفسيرى هذه «روح مثقف حقيقى».. و«إنسان» بالطبع.

المثقف فى تعريفه الأساسى ومهامه المقدسة- إذا جاز لى أن أضع اجتهادًا- هو ذلك الذى يضع معرفته أو علمه فى خدمة مجتمعه.

والمعرفة هنا بكل فنونها.. والعلم بتعدد مجالاته.

فلا مثقف بلا خدمة عامة.

ومن هذه الرؤية نستطيع أن نضع هانى الناظر فى طليعة مثقفى المجتمع المصرى.. فقد وضع كل ما يعرفه وكل ما درسه فى خدمة الآخرين.. دون أن ينتظر جزاءً ولا شكورًا.

الأب- طبيب بالمناسبة- كان «كلمة السر» الأولى فى حياته.

حين تحدث عنه فى مرة نادرة قال: «أنا أعيش فى جلباب أبى»؛ ففى سنواته الأولى تعلم منه ألا يتخلى عن أخلاقه ومبادئه أبدًا.

كان الابن يخرج مع والده كثيرًا.. وشده مشهد متكرر.

الأب يلقى السلام على «فكهانى» فى الطريق.. والرجل لا يرد السلام أبدًا!

ولما تكرر المشهد سأل «هانى» والده عن السبب فى إصراره على إلقاء السلام، رغم أن «الفكهانى» لا يرد.

أجابه: «أنا مش هغيّر أخلاقى عشانه.. وهفضل أقول له (صباح الخير) لحد ما يتعلم مِنّى ويرد»!.

وهذه النشأة وهذا التوجه انعكسا على تصرفاته فى كل جوانب حياته.

ومنه أيضًا تعلم فضيلة عظمى.. أن يتعامل مع المرضى من صغار السن كأنهم أولاده، ويتعامل مع المرضى الكبار كأنهم أهله أو من أفراد أسرته.

أما أمه فكانت دائمًا ما تدعو له بقولها: «ربنا يوقف لك ولاد الحلال».. وهذه الدعوة ساعدته كثيرًا فى حياته.

لم يدرس هانى الناظر الطب بشكل عادى.

نعم.. منذ صغره كان يتمنى أن يصبح طبيبًا، ومن هنا كان طالبًا غير مشاغب، بل كان هادئًا ومتفوقًا، وفى الابتدائية كان مجموعه يزيد على ٩٠٪، ومن ثم التحق بفصول المتفوقين فى الإعدادية.

وفى الثانوية، التحق بمدرسة الفسطاط، وبرغم تفوقه حصل على مجموع ٦٥٫٥٪، وهو ما يقل عن الحد الأدنى للقبول كلية الطب، الذى كان ٦٦٪.

حزن كثيرًا، ثم استرد نفسه والتحق بكلية الزراعة جامعة القاهرة، وتفوق فيها، وكان من زملائه عادل إمام، الذى كان يدرس فى الصف الرابع، والفنانة محسنة توفيق، وغيرهما.

وبعد التخرج التحق بالقوات المسلحة «ضابط احتياط»، وحصل على درجة البكالوريوس فى العلوم العسكرية، وشارك فى حرب أكتوبر برتبة «ملازم»، وغادر برتبة «نقيب».

هنا قرر أن يستكمل حلمه القديم؛ فالتحق بكلية الطب جامعة عين شمس، وعُيّن بعد تخرجه فى المركز القومى للبحوث، ثم حصل على درجة الماجستير فى الأمراض الجلدية، والدكتوراه فى استخدام النباتات الطبية فى علاج الأمراض الجلدية.

وفى هذه الأثناء- وبالتحديد فى فترة التحاقه بالقوات المسلحة- كان قد قابل «نصفه الآخر».

أتركه ليحكى:

«بعد التحاقى بالقوات المسلحة كنت معجبًا جدًا بجارتى، التى هى زوجتى حاليًا، واستمرت قصة الحب بيننا لمدة عام، واستمرت خطوبتنا بعدها ٤ أعوام، بمعنى أننا تزوجنا بعد قصة حب استمرت ٥ سنوات كاملة. وحين تزوجنا كان راتبى ٦٠ جنيهًا، وراتب زوجتى ٣٠ جنيهًا، وأذكر أن تجهيز شقتنا تكلف نحو ٣ آلاف جنيه، وهى أرقام كبيرة بحسابات تلك الأيام، كما كنا نمتلك سيارة من نوع (رمسيس)، صناعة مصرية. والحمد لله بدأنا حياتنا بمرتبات كافية وعشنا بشكل جيد، وأذكر أننى بعد الزواج (عزمت) زوجتى على غداء فاخر فى فندق ٥ نجوم، وكانت تكلفته ٥ جنيهات كاملة».

حقق هانى الناظر نجاحًا كبيرًا فى حياته العملية سواء داخل المركز القومى للبحوث أم على صعيد العمل الخاص.

وهذا النجاح، أو «الكرم الإلهى» كما يصفه، دفعه لأن يعمل لرد الجميل، فقرر أن يبدأ «عيادة أونلاين» مجانية، عبر صفحته على «فيسبوك».

وعندما سَألَته زميلتى ريم محمود، فى «الدستور»، عن السر أجاب: 

«مصر أنفقت علىّ وعلى تعليمى، وما زالت حتى الآن تمنحنى راتبًا متميزًا، وكل ما أفعله هو محاولة لرد الجميل، فراتبى وتعليمى كانا من ضرائب الناس، ففكرت أن أرد إلى بعضهم جزءًا من الجميل، وأعالج حالاتهم عن طريق الطب عن بُعد والمساعدة، وتقديم الاستشارة عبر مواقع التواصل، ويكفينى دعاء الناس لى (ربنا يديك الصحة ويسترها معاك دنيا وآخرة)». 

ووقتها- والحوار عمره ٥ سنوات- حكى عن شاب لا يعرفه التقاه فى «سوبر ماركت»، فإذا به يجد هذا الشاب قادمًا ليصافحه بحرارة شديدة.

وقطع الشاب حيرته حين قال له: «حضرتك عالجتنى من مرض الصدفية سنة ٩٤.. ربنا يخليك ويكرمك».

وبالنسبة له كان هذا الموقف كافيًا ليستمر فيما يفعله مهما أخذ من وقته.

على أن حلمه فى الخير كان أكبر من ذلك.

كان حلم الدكتور هانى الناظر افتتاح مستشفى خاص لعلاج الأمراض الجلدية بالمجان على غرار ما فعله الدكتور مجدى يعقوب فى علاج أمراض القلب.. لكن ما منعه غياب الدعم، فقد كان بحاجة لدعم كبير من الدولة، كما كان بحاجة لمعاونة أساتذة الأمراض الجلدية، الذين يمكنهم إدارة مثل هذا الصرح دون مقابل. 

وبرغم ذلك دشن مشروعًا لعلاج مرض الصدفية فى مدينة سفاجا بالبحر الأحمر، بالاستعانة بأحد أبحاثه فى المركز القومى للبحوث، وقد أسهم مشروعه فى تحول سفاجا لأكبر مركز لعلاج الصدفية فى العالم، وبسببه حصل على جائزة الدولة التشجيعية، لكونه أول مشروع مصرى يضع البلاد عمليًا على خريطة السياحة العلاجية.

وللدكتور هانى قصة مع «جوائز الدولة» تستحق أن تُروى.

فى عام ٢٠٠٩ رشحته ٩ جهات مختلفة لنيل جائزة الدولة التقديرية، وكان الأول فى تقييم اللجنة العلمية، التى تضم كبار الأساتذة والأطباء، حتى إن كثيرين كان يتصلون به ويقولون «مبروك».

ومع ذلك سحبوا الجائزة منه!

والسر فى ذلك هو خلاف بينه وبين وزير التعليم العالى وقتها حول مدى صلاحية إحدى شحنات القمح، التى أظهرت تقارير الحكومة صلاحيتها للاستخدام، فى الوقت الذى أثبتت أبحاث، أجراها بالتعاون مع الرقابة الإدارية، فسادها.

ومع إثبات صحة رأيه واتخاذ الإجراءات اللازمة بشأن وقف الشحنة وإبطال إجراءاتها، رفض الوزير اعتماد اسمه فى الجوائز، وأصدر قراره بسحب الجائزة، متعللًا بأن أبحاثه لا ترقى لمستوى الجائزة، رغم أن الجائزة التقديرية لا تتعلق بالأبحاث بل تتعلق بما يقدمه الشخص لوطنه.

والأكيد أن هذا الوزير ذهب وبقى هانى الناظر.

إننى أدعو الله لهذا الطبيب الجليل والمثقف الحقيقى بالرحمة والمغفرة.

ارقد فى سلام يا دكتور هانى.