رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نيران آل الدمراوى

هناء متولى
هناء متولى

تتصاعد النيران من بيت آل الدمراوى ليلًا، لا أحد يعرف سببها، كل ما هنالك صرخات من الجيران وجرادل من ماء الترعة تصعد وتهبط الطوابق الخمسة مرة أو مرتين كل أسبوع، ويحمد الدمراوى الله أنها جاءت سليمة ولم يصب أحد، ثم يجلس أمام البيت، ويحك ذقنه فى ذهول.

البيت كبير جمع فيه أولاده وزوجاتهم وأحفاده، ملحق به زريبة كبيرة، وفناء واسع به ماكينة طحين تعمل طوال النهار. عائلة الدمراوى كبيرة نسبيًا ومعروفة لجميع أهالى القرية، حتى إن البعض يتندَّر بأنهم لو ذبحوا خروفًا لأكلوه فى يوم واحد، يملكون عشرة فدادين ويستأجرون خمسة أخرى، وتبدو عليهم علامات اليُسر، لكن تلك النيران التى تشتعل أعلى البيت صارت همَّ الدمراوى وشغله الشاغل فى الآونة الأخيرة، كلما حاولوا إخمادها ازدادت فورانًا حتى ظنوا أنها النهاية، فتخمدُ وحدها، ولا يملكون تفسيرًا مقنعًا، وما زاد الأمر صعوبة عليه أن الليالى التى لا حرائق فيها يستقيظ مفزوعًا فى قلب الليل على صرخات أحفاده الذين يروون حكايات عجيبة عن مخلوقات مفزعة تنتشر فى البيت وتبث فيهم الرعب عن قصد، حتى إن بعض أحفاده يظلون فاقدى الوعى نهارًا كاملًا، ومن وقت إلى آخر يرى ما يُشبه الأحجبة والأعمال ملقاة أسفل السلالم أو بجوار ماكينة الطحين أو على عتبة البيت، ولم يجد بُدًا من إرسال أحد أبنائه إلى الخالة مسعودة؛ كى تنجدهم مما هم مقبلون عليه من سوء طالع.

مسعودة حبه القديم، فتاته التى وعدها بالزواج مهما حدث، والتى وقف فى وجه عائلته بسببها، أمه قالت له: «على جُثتى إن تزوجت بنت الدجَّال»، بينما أبوه لم يكن يرى أن للفتاة ذنبًا، غير أن حظَّها العثر جعلها بنت ذلك الدجَّال الذى باع دينه للشيطان، وأن أحدًا لا يملك اختيار والديه. الدمراوى وقتها لم يكن مُهتمًا برفض أعمامه، ولم يعدم الحيلة فى محاولات إقناع أمه بزواجه من مسعودة، خصوصًا أن أمه ذات نشأة متواضعة؛ فأبوه قد رآها فتاة صغيرة تعمل مع عائلتها فى الموالد، تتنقل بين القرى والعِزب على عربة كارو مع والديها، وتقف على نصبة الشاى والقهوة إلى أن ينفضَّ المولد؛ فتبدأ فى رحلتها الجديدة، زبائن المولد يتجمَّعون حولها ليس من أجل أكواب الشاى، وإنما من أجل سواد عينيها، كانتا واسعتين كحيلتين سابحتين فى بياض ناصع، أبوالدمراوى كان يتنقَّل فى الموالد وراءها حتى تزوَّجها، لكن الحكاية لم تتكرر، أمه الآن ترفض زواجه من ابنة الدجَّال، ولا تتعاطف مع نشأتها المُتواضعة، وفى صباح يتصف بالمرونة وافقت أمه، هكذا دون مقدمات، طار الدمراوى فى شوارع القرية قاصدًا الساقية، حيث اعتاد أن يقابل مسعودته هناك، طار حتى إن أحد نعليه سقط منه دون أن يشعر، وهناك إذ تتلاحق أنفاسه، قال لها: «أمى وافقت»، لم تذهب المفاجأة بعقلها رغم فرحتها الواضحة، اتسعت عيناها وزاد بريقهما وهى تؤكد له أن العمل الذى صنعته بيدها لا يُخطئ أبدًا، ومن ساعتها صار الدمراوى يتهرَّب منها بعدما تأكدت له مقولة أمه أنها «بنت حرام»، ظل ملتزمًا بالصلاة فى الجامع الكبير ويقرأ القرآن حتى يُحصِّن نفسه وعائلته من شر مسعودة بنت الدجَّال، وتزوج من أول فتاةٍ رشَّحتها له أمه، وعاش طوال السنوات الفائتة حياة هادئة نسبيًا حتى دهمت الحرائق بيته.

قبل تلك الحرائق بشهرين تعرَّف الدمراوى إلى الدكتور عماد عن طريق إبراهيم توكل، الذى مكَّنه من دخول القرية عن طريق افتتاح عيادة للعلاج الطبيعى، لكن الشُهرة التى نالها عماد لم تكن بسبب ممارسته الطب، بل الشهرة التى سبَّبت ذيوعَ صيته فى الأنحاء أنه ادَّعى العلاج بالطاقة، وأنه عِلم درسه بالخارج يستخدم فيه الأعشاب والأحجار الكريمة، وبين يوم وليلة صار أهالى القرية يستعينون به قبل شراء البيوت والسيارات ليكشف لهم عن طاقتها قبل شرائها، ما جعل الدمراوى يمنحه أذنًا صاغية حين أخبره بأن بيوتًا كثيرة بالقرية تعوم على بحر من الآثار.

الدمراوى رجل معتدل السلوك، مُتديِّن منذ أن تهرب من مسعودة، لكنه انساق خلف توكل والدكتور عماد حين أقسم له الأخير بأن أسفل بيته مقبرة فرعونية «لُقطة»، كما يقولون فى الريف، والدمراوى كسائر الناس لا يتجاهلون الكنوز خصوصًا أنه يرقد فوقها، وفى عشية يوم عادى، دخل الدكتور عماد على الدمراوى بصحبة توكل وشيخ غريب عن القرية، ومن وقتها والحرائق فى بيته لا تخمد حتى تشتعل مجددًا.

ردت مسعودة ابن الدمراوى خائب الرجاء ورفضت مساعدتهم، وقالت له: «بنت الدجَّال لا تساعد الأندال»، وما إن سمع رسالتها حتى أطرق وهو يقول فى نفسه: «الله يرحمك يا أمى». لم يتوقف التنقيب عن الآثار لمدة أسبوع كامل، شيوخ وآلات ثقيلة وجلسات لتحضير الأرواح، كل ذلك بإشراف إبراهيم توكل ويحيى المحامى، وبمباركة مسعودة التى تمكَّنت من طرد آل الدمراوى خارج القرية، بعد أن هددت حبيبها القديم بأن بقاءه يعنى وفاة أحفاده واحدًا تلو الآخر.

لكن يبدو أن اللعنة التى تركها الدمراوى وراء ظهره قد سقطت على القرية كلها، فكان كلما حفروا أسفل البيت؛ طمعًا فى الكنز، وجدوا هياكل عظمية وبقايا شَعْر طويل، بل لمَّا أكملوا أعمال الحفر فى البيوت المجاورة وسط غياب الشرطة، لم يجدوا إلا المقابر وبقايا الجثث، كأن منازل القرية كلها كانت مقامة على مقبرة جماعية للنساء. 

ربما أن القرية لم تكن تسبح على مقبرة فرعونية، كما هو شائع عنها منذ قديم الأزل، بل كانت تخفى لعنة أُطلقت أخيرًا، لتظل لصيقة بأهلها وذريتهم إلى آخر الزمان.

من رواية «يوم آخر للقتل»