رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جودة عبدالخالق: الإخوان احتكروا الدين وحولوا الشخصية المصرية لـ«مسخ»

الدكتور جودة عبدالخالق
الدكتور جودة عبدالخالق

وصف الدكتور جودة عبدالخالق، وزير التموين والتجارة الداخلية الأسبق، ثورة ٣٠ يونيو بأنها إنجاز كبير فى مسيرة المجتمع المصرى، بعد أن استحضرت مفهوم الوطن باعتباره الوعاء الحاضن للجميع، فى مواجهة جماعات «الإسلام السياسى»، التى حولت الشخصية المصرية لـ«مسخ»، و«خصخصوا» الدين، وجعلوه حكرًا عليهم.

وقال الأكاديمى والاقتصادى الكبير، خلال حديثه لبرنامج «الشاهد»، الذى يقدمه الإعلامى الدكتور محمد الباز، على فضائية «إكسترا نيوز»، إن التنوع فى المشهد المصرى شهد تراجعًا كبيرًا طيلة العقود الماضية، ما خلق درجة عالية من التوتر فى الداخل.

ورأى «عبدالخالق» أن خطة الحكومة لخلق ٣ ملايين فرصة عمل فى الخارج هى «لعب بالنار»، لأنها تعرض المجتمع للهشاشة الاقتصادية والاجتماعية، معتبرًا أن الأزمة الاقتصادية التى تمر بها مصر حاليًا ناتجة عن قصور فى التفكير، لأن المجتمع «أكبر من حفنة دولارات».

■ كان المصريون قديمًا يربون أبناءهم على قيمة العمل.. كيف رأيت ذلك بناءً على تجربتك الممتدة؟

- أول عمل لى كان فى سن صغيرة، وأتحدث عن زمن الفاصل بيننا وبينه حاليًا فوق الـ٧٠ سنة، وهو عبارة عن ٤ أجيال، وخلال هذه الفترة جرت مياه كثيرة جدًا تحت الجسور فى المحروسة بشكل خاص، وفى العالم بشكل عام، ويمكن عمل إطلالة على الموضوع خلال هذه الفترة، وهو دلالة العلاقة بين الداخل والخارج.

ولو عدنا بالزمن، فإن أول مواجهة بين الداخل والخارج خلال الـ٧٠ سنة كانت هى حرب ١٩٤٨، ووقت ما حصلت كنت طفلًا، ولم تكن لدىّ فكرة عما يحدث، لكن بعدها جاء عدوان ١٩٥٦، وما حدث وقتها كانت له علاقة بخطوط التماس بين الداخل والخارج، حيث الاستعمار الأجنبى، ثم بعدها جاءت ٦٧، ثم حرب ٧٣، ثم الانفتاح.

وخلالها حدث أيضًا إنجاز لا بد من الوقوف أمامه كثيرًا، ويرتبط أيضًا بالمواجهة بين الداخل والخارج، وهو الوقفة الصارمة أمام الإخوان فى ثورة ٣٠ يونيو، لأن الجماعة تنفى فكرة الوطن، وهذا جزء من عقيدتهم، لكن وقف الناس وقفة صارمة قالوا فيها: لا.. هذا هو الوطن ولا بد من حضوره أولًا وآخرًا، لأنه الوعاء الحاضن للجميع، وهذا شىء يعد إنجازًا كبيرًا جدًا.

وبالنظر إلى ما يتعلق بتاريخ الثورات، نرى أنها تتعرض للاختطاف أو للسرقة عدة مرات، على غرار ما حدث للثورة الفرنسية، وثورة يناير، التى تعرضت أيضًا للاختطاف مرتين، وهكذا، فنحن لدينا مجتمع يضم كل ألوان الطيف، وهذا عنصر مخصّب وفاعل جدًا، لكن الخط البيانى للتنوع كان فى هبوط مستمر، ولو عدنا إلى ثورة ١٩٥٢ سنجد أنها اتخذت إجراءات أزعجت البعض فغادروا البلاد، وبالتالى، فإن الدرس الذى يجب أن نستفيد منه هو الحرص على التنوع بأى شكل من الأشكال، وأتمنى عمومًا أن نكون وصلنا للقاع حتى نرتفع مرة أخرى، مثل ما هو معهود فى حركة «بندول الساعة».

■ ما علاقة التنوع بجدلية الداخل والخارج؟ 

- انطلاقًا من هاجس التنوع، نظمنا منذ أيام زيارة للمعبد اليهودى فى شارع عدلى بوسط البلد، وكانت زيارة كاشفة ومنشئة، لأن المكان غير مهجور ولا ترجع ملكيته للأعداء، بل إلى المصريين والجدود منذ أجيال مضت، فنحن لا نعرف منذ كم جيل كان هؤلاء الجدود مسيحيين أم يهودًا.

وقد تواصلت مع الأستاذة ماجدة هارون، رئيسة الطائفة اليهودية فى مصر، وكان والدها صديقى، وهو مصرى حتى النخاع، وذهبنا للزيارة وكانت كاشفة عن جزء من العمق والامتداد المصرى، فى أحد تفريعاته، لأن هناك طقوسًا دينية مشتركة بين الأديان الثلاثة، علاوة على حجم إسهام الطائفة اليهودية، ثقافيًا وفنيًَا وسياسيًا واقتصاديًا، فى مصر، حتى إن أهم أنصار طلعت حرب فى خطته لتدعيم الاقتصاد المصرى كان رجل أعمال يهوديًا مصريًا.

والمعبد اليهودى تم إنشاؤه فى مطلع القرن العشرين، وكان أعلى خط بيانى للطائفة اليهودية فى مصر، وتلك الزيارة كانت منشئة، وبعدها تغير المنظور ووجهة النظر العامة، لأنه يجب الفصل بين اليهود المصريين و«الصهيونية» كحركة فكرية.

وبالعودة لفكرة التنوع، فأنا كأستاذ جامعى أرى أن هناك ٣ خطوط تماس تخلق درجة عالية جدًا من التوتر فى المشهد، وهى الجنس والطبقة والدين، فأولًا من حيث الجنس، أجد أننى فى الماضى كنت أتعامل مع زميلتى فى الجامعة على أنها أختى، لكننا الآن أصبحنا نرى نوعًا من الاستقطاب، فالطلاب يجلسون فى أماكن، والطالبات يجلسن فى أماكن أخرى، ونادرًا ما نجد تداخلًا بينهما، أما الخط الثانى فهو الطبقة، أى الفقراء والأغنياء، فهناك من تخرجوا فى مدارس إنترناشيونال، وآخرون تخرجوا فى المدارس الحكومية، والخط الثالث هو خط الدين.

وعندما يكون لدينا ٣ خطوط تماس فى نفس السياق، فإننا نكون إزاء مشهد شديد التعقيد، وكل ذلك، فى رأيى، نتاج للانخفاض فى التنوع والقبول فى آخر ٧٠ سنة، فالتنوع رحمة ونعمة وعامل من عوامل الرقى.

■ كيف تراجع التنوع فى المجتمع المصرى؟

- كان ذلك نتاج مرحلة طويلة من السبعين سنة الأخيرة، فهناك انخفاض متتالٍ للتنوع والقبول للآخر، ولو نظرت لمجتمعات ثانية للقياس سنجد مثلًا أن سنغافورة لها رئيسة وهى سيدة مسلمة، رغم أن الأغلبية الساحقة من الشعب من غير المسلمين.

وسنجد أيضًا عند جنوب إفريقيا فى عرض قضية فلسطين أمام محكمة العدل الدولية تنوعًا فى الشخصيات، ما بين رجل مسلم وسيدة سمراء ورجل أبيض، وهذا مجتمع متناغم، وليس متعايشًا فقط.

ولا بد أن نحيى هنا الموقف التاريخى لنيلسون مانديلا، الذى قال أمام الأمم المتحدة إنه لم يأت لينتقم، ورفض أن يكون رئيسًا لجنوب إفريقيا مدى الحياة، وطلب دخول عناصر جديدة، رغم أنه أدى دورًا تاريخيًا وحافظ على كيان مجتمع جنوب إفريقيا متماسكًا بكل مكوناته، وقدم شخصيات جديدة لإدارة الدولة. 

ولذلك، فإن التنوع الحيوى هو عمود أساسى فى الطبيعة، فلا بد من وجود الشجرة الكبيرة وشجرة أخرى تتسلق عليها، كما أن الحيوان يساند الحيوانات الأخرى، وهذا يؤدى إلى التوازن البيئى، والقرآن الكريم يقول «ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض».

■ ما العوامل الثقافية والفكرية المرتبطة بظهور جماعات وتيارات معينة كان لها بالغ الأثر على تحويل الشخصية المصرية من التنوع إلى الشخصية الأحادية ضيقة الأفق التى لا تتقبل الآخر؟

- هذا الرافد الجديد، الذى سماه البعض بـ«المد الدينى» أو «الإسلام السياسى»، وهو بالمناسبة ليس إسلامًا سياسيًا، سنجد أنه امتد فى الجانب الآخر مع الأقباط، وظهر نفس المد والتطرف الدينى.

وأرى أن ذلك يأتى على خلفية عدة أمور، منها علاقة الداخل بالخارج، لأن القرن التاسع عشر من أهم سماته هو أنه قرن المواجهة الكبرى بين الداخل والخارج فى مصر، لأن مصر تعرضت لعملية نهب اقتصادى ومالى على نطاق كبير جدًا، وجزء كبير من الأمر كان فى مشروع قناة السويس، ومسألة الديون فى عهد الخديو إسماعيل، وما بعدها فى مصر الخديوية.

وكل ذلك خلق رد فعل قويًا لدى العقل الجمعى للمصريين ضد الآخر، وهو هنا المستعمر، وتم استدعاء الدين فى هذه الفترة باعتباره من أهم الدفاعات، وهذا حدث فى عدة بلدان، مثلًا فى أمريكا اللاتينية وفى الجزائر أثناء كفاح الاستقلال، وهذا الظهير ليس جديدًا ولكن ظهر ذكاء الغرب فى التعامل مع الإخوان المسلمين، وعندما تقرأ فى تاريخهم تجد أن أهم معزز لهم كان المخابرات البريطانية، وللأسف الشديد، فتيار الإسلام السياسى أجرى عملية «خصخصة للدين»، وجعلوه احتكارًا لهم وخاصًا بهم.

وإذا كنا نخطط للمستقبل فعلينا الاستفادة من دروس الماضى، وأن نكون حريصين على ضمان قدر من التوازن بين المكونات المختلفة، فلو رجعنا إلى الوراء، وتحدثنا عن ثورة ١٩١٩ وثورة يناير ٢٠١١ سنجد أن القاسم المشترك بينهما هو أن كل طوائف المجتمع كانت حاضرة المشهد، وفيه نجد الوعى الجمعى للمصريين، وأن التيمة الأساسية للمصريين هى الكل فى واحد، لكن الاستقطاب يحدث فى لحظات معينة واستثنائية، وبعد تأويل معين للنصوص الدينية.

ولكى نمر من هذه المرحلة بسلاسة وفى أقل وقت وتكلفة ممكنة فلا بد أن نعمل على ذلك الموضوع، وهنا يلعب الإعلام دورًا كبيرًا جدًا، وكذلك الأمر بالنسبة للطبقة السياسية، لأن البناء لو تعرض لشروخ كبيرة فإنه سينهار ولن يكون قويًا بما فيه الكفاية.

■ كثيرون يرجعون حالة المد الدينى لما حدث فى ١٩٦٧ متجاهلين تجذر المسألة مع الإخوان فى السابق.. فهل تتفق مع هذا الرأى؟

- إلى حد ما، فعندما ترجع للتاريخ وترصد التفاعل الذى حدث بين مصر، كقوة إقليمية، وبين بؤر مختلفة فى الإقليم، ستجد أنه فى ذلك الحين كانت مصر تمثل التقدمية فى مواجهة الرجعية.

وبالمناسبة، انزعجت كثيرًا عندما سمعت الحكومة تقول إنها تستهدف خلق ٣ ملايين فرصة عمل للمصريين فى الخارج، وهذا لعب بالنار، وأول شىء منطقى هو السؤال عما هو الأيسر: خلق فرص عمل للمصريين فى الداخل أم فى الخارج؟، فهذا سؤال منطقى جدًا، والأكثر استدامة هو أن تكون فى الداخل، لأنه عندما تراهن على المنفذ الخارجى لاستخدام العمالة تعرض الاقتصاد المصرى لدرجة عالية من الهشاشة فى مواجهة الصدمات الخارجية، بمعنى أنه إذا حدثت مشكلة فى دولة ما فإنهم سيرسلون إليك كل العمالة، ما يُحدث إرباكًا فى السوق المصرية، فضلًا عن تعرض المجتمع لنوع آخر من الهشاشة، لأن من يخرج للعمل فى الخارج يكون لديه استعداد لتقبل وتشرب واستيراد والرجوع بمفاهيم وأفكار هذه الدول.

ولذلك، لا يجب النظر لهذا الموضوع بمعيار النقد والفلوس فقط، فهذه نظرة مقصورة جدًا لأنها تتعلق بمفهوم الأمن القومى.

كما أننى منزعج أيضًا من المنظور الخاص بإدارة الشأن العام فى مصر، مع هذا التركيز المخل على الدولار، فعندما تحلل مضمون الخطاب العام والتصريحات تجد الحديث كله يدور حول الفجوة الدولارية، وأنا منزعج لأنه اختزال مشوه ومخل للصورة، فالمجتمع أكبر بكثير من حفنة دولارات، والأزمة مفتعلة وتشكلت بسبب القصور فى التفكير، وتأتى ضمن التركيز على عدة أمور على حساب أخرى، فهناك مثلًا التركيز على المادة والشكل على حساب المعنى والمضمون، فأغلب لافتات المحلات لدينا مثلًا لا علاقة لها بمصر، بل كلها أسماء أجنبية وماركات أجنبية، وترفض اللغة العربية رغم أنها أهم ركيزة. 

والأمر الثانى هو أن تلك الأمور تغذى النزعة للاستهلاك على حساب النزعة الإنتاجية، وبالتالى تكون هناك فجوة دولارية، وهنا لا بد من استحضار الثقافة، كركيزة أساسية للأداء الاقتصادى، مثل الحديث عن المشروع الصينى القائم على ذلك، بعد مواجهة شرسة من الداخل، فالمشروع الصينى يقوم على أنه مجتمع تاريخى واجه ضغوطًا كبيرة من الخارج، مثل حرب «الأفيون»، والصينيون دائمًا ما يتحدثون فى خطاباتهم كأمة.

والخطابات القادمة من دول أخرى بالخارج كلها تدور حول أن الأمة تقبل هذا أو ترفض ذلك، وليس الدولة أو الحكومة، كما هو المفهوم عند البعض فى مصر، فالصينيون مثلًا قالوا إنهم سيستغنون عن ٤٢٪ من دخلهم ليدخروها مقابل ٥٨٪ للاستهلاك، أما فى نظامنا فدائمًا السؤال هو: هل من مزيد؟، رغم أن الدين حث على عدم التبذير بقوله تعالى «إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ»، وبالتالى لا يوجد معنى لكل هذا الاستهلاك.

وأرى أن الإخوان خلقوا جرحًا كبيرًا فى جسد الأمة، وخلقوا ما يسمى بالفصيل، والذى تغذى بدعم خارجى من الشرق والغرب، وهذا التيار الدينى حوّل الشخصية المصرية لمسخ، واستطاع على مدار تطوره أن يهزم الدولة عند وصوله للحكم.

■ ما رأيك فى الدكتور رفعت السعيد وتقييمك لكتاباته الموجهة لـ«المتأسلمين»؟

- كان صديقى وكانت بيننا خلافات من منطلق التنوع، وعندما حججت كان ينظر إلىّ وكأنه مستهجن، وهو مثلًا كان يتحدث عن «المتأسلمين» والناس من العامة لا تعرف الفارق بين الكلمة وبين «المسلمين»، وعندما يهاجم «المتأسلمين» فى النهاية كانت تصل إلى العامة على أنها مهاجمة لـ«المسلمين».

■ هل قام التيار اليسارى بدوره فى حماية الأمة المصرية؟

- خضت صراعات كثيرة فى صفوف اليسار المصرى من هذه الزاوية، لأن هناك عدة مآخذ على رفاقى، ومنها أنهم ينظرون للدين على أنه خارج المشهد، وأنا أنظر إليه على أنه داخله، لأن المصريين متدينون من أيام إخناتون أبو التوحيد، وفهم الشخصية المصرية لا بد أن يكون الدين مكونًا أساسيًا فيها، لأن المشكلة ليست فى الدين ولكن فى السردية، فوظيفتى ليست مواجهة الإخوان، ولكن وضع الدين فى نطاقه الصحيح.