رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد الباز يكتب: عادل حمودة كاتب شبح

الدكتورمحمد الباز
الدكتورمحمد الباز وعادل حمودة

كنت أقف إلى جوار الكاتب الكبير عادل حمودة فى صالة التنفيذ بجريدة «صوت الأمة»، وجدته متحمسًا ومنشغلًا عمّن حوله بمتابعة تنفيذ غلاف كتابه الجديد «ضحية يوليو.. الوثائق الخاصة للرئيس محمد نجيب». 

كان ذلك فى أحد أيام شهر يونيو من العام ٢٠٠٢، لم يكن الكتاب جديدًا، صدرت طبعته الأولى فى العام ١٩٨٥ عن مؤسسة روزاليوسف بعنوان «الوثائق الخاصة بالرئيس نجيب». 

سألته: لماذا تعيد طباعة الكتاب الآن؟ 

اكتفى بقوله: هذا العام تمر خمسون عامًا على ثورة يوليو. 

قرأت العنوان بصوت عال وأنا أقف إلى جواره، ففهم أننى سأسأله عن إضافته لـ«ضحية يوليو» كعنوان أساسى، بينما ينسحب عنوان الطبعة الأولى ليكون مجرد عنوان فرعى للطبعة الجديدة، نظر إلىّ، وقال: العنوان الجديد يلخص ما حدث لنجيب.. فهو لم يكن أكثر من ضحية. 

عندما نشرت نتيجة تفتيشى عن واقعة تزوير مذكرات محمد نجيب «كلمتى للتاريخ»، التى صدرت فى طبعة مصرية فى العام ١٩٧٥ مختلفة فى تفاصيل كثيرة عن طبعتها البيروتية، التى صدرت فى العام ١٩٨٤، كنت مهتمًا بالواقعة فى حد ذاتها، لم أصل بتنقيبى عن حقيقة مذكرات أول رئيس حكم مصر بعد ثورة ٥٢، رغم علمى بأنها قصة لا تقل درامية عن حياته. 

صدرت مذكرات محمد نجيب فى ثلاث نسخ مختلفة. 

المرة الأولى كانت فى العام ١٩٥٥، وكان عنوانها «مصير مصر»، وحررها وقتها الكاتب الإنجليزى «لى وايت». 

فى حواره الذى أجراه معه الصحفى اللبنانى سليم اللوزى ونشرته مجلة الحوادث اللبنانية فى ٣ أغسطس ١٩٧٣، قال اللوزى لمحمد نجيب: هناك كتاب نُشر باسمك باللغة الإنجليزية عنوانه «قدر مصر»، قيل إنه من تأليف «لى وايت»، وقد راجعناه مع مذكراتك «كلمتى للتاريخ»، فوجدنا فيه بعض الاختلافات فى وقائع معينة. 

فرد نجيب موضحًا: هذا الكتاب لم يكن مذكراتى، ولم يُعرض علىّ قبل نشره، وأنا غير مسئول عن أى اختلافات، والذى ورد فى مذكراتى التى ستنشرونها هو الحقيقة، أما هذا الكتاب فقصته أن مستر «لى وايت» كان قد التقى بى أثناء رئاستى، فأمليت عليه فى أكثر من جلسة بعض أحداث ذلك الحين، فى الحدود التى يُسمح لى بها فى منصبى الرسمى وقتها، وقد طبع الكتاب وأنا معتقل. 

فى كتابه «الوثائق السرية للرئيس نجيب»، يقول عادل حمودة: فجأة قال لى الرئيس نجيب: اسمع.. لقد مر علىّ مئات من الصحفيين من كل أنحاء الدنيا، جاءوا ليأخذوا منى أحاديث خاطفة، لا تقدم ولا تؤخر، لكن لم أجد واحدًا منهم يتمتع بصبرك وطول بالك، وأنا أعترف لك أن قلبى انفتح لك، وعقلى أيضًا، وأننى أصبحت أثق فيك ثقة عمياء، لذلك قررت أن أعطيك أوراقى ووثائقى الخاصة، وصور ألبوماتى وخطاباتى الشخصية والعامة، وقبل أن أفتح فمى من الدهشة، وقبل أن أحاول ضبط مشاعرى من الفرحة، مد الرئيس نجيب يده تحت مخدة فراشه وأخرج كتابًا عليه صورته. 

المفاجأة لم تكن فى الكتاب، ولكن فيما قاله نجيب عنه، قال: هذا أول كتاب عنوانه «قدر مصر» الذى كتبته عام ١٩٥٤ وأنا رئيس للجمهورية، ونشر فى لندن عام ١٩٥٥ بعد اعتقالى، وهذه هى النسخة الوحيدة التى بقيت فى مصر، بعد أن أحرقت كل النسخ التى وصلت ميناء القاهرة الجوى قبل أن تدخل البلاد، فأصبح لهذا السبب هذا الكتاب مجهولًا، لا يعرفه أحد فى مصر إلا عدد قليل جدًا من الصحفيين والسياسيين المخضرمين. 

ملاحظة على الهامش: 

يبدو أن الكتاب صدرت طبعته الأولى باسم «قدر مصر»، وتغير الاسم فى الطبعات اللاحقة فأصبح «مصير مصر»، وهو الاسم الذى لا تزال الطبعات تصدر به حتى الآن. 

يمكننا أن نستأنف كلامنا بعد تسجيل الملاحظة. 

فى العام ١٩٧٣ قال نجيب إن هذا الكتاب ليس مذكراته، وإنه أُملى على كاتبه بعض ما سمح له به منصبه. 

وفى العام ١٩٨٤- عندما كان يجالسه عادل حمودة- قال إنه هو من كتب الكتاب بنفسه وإن نسخه التى وصلت إلى مطار القاهرة حرقت بالكامل. 

أنا أصدق محمد نجيب الأول. 

فمن تصدق أنت؟ 

النسخة الثانية من مذكرات محمد نجيب كانت «كلمتى للتاريخ»، التى صدرت فى طبعتين ببيروت والقاهرة، وصدرت فى المرتين دون ناشر معروف، فلم يكن ما ذكرته صحيحًا من أن «المكتب المصرى الحديث» هو من نشر الطبعة المصرية، بل كانت مجرد طبعة لقيطة دون ناشر يضع اسمه عليها ويتحمل مسئوليتها المعنوية والقانونية. 

لكن هل كتب محمد نجيب «كلمتى للتاريخ»؟ 

فى حديثه إلى جريدة «القبس الكويتية»- منشور فى ٢٠ يناير ١٩٧٤- كان السؤال عمّن كتب له المذكرات؟ 

رد نجيب: أنا اللى كتبتها بإيدى ولغتى.. وقد قالوا من ضمن الدعاية اللى عاملينها إنى إديت لواحد يكتبها، ناس قالت سليم اللوزى، لا لا لا، وناس قالت أحمد حمروش كمان، حمروش ساعدنى، لكن ساعدنى بإيه؟ هو شيوعى، والجماعة دول مبدأهم الحرية، فعرضت عليه عشان يحذف منها الحاجات اللى ما يبقاش لها لزمة. 

لم يكن محمد نجيب منصفًا أبدًا مع أحمد حمروش، الذى كان ضابطًا من الضباط الأحرار، ولعب دورًا كبيرًا فى كتابة ثورة ٢٣ يوليو، وله عدد من المؤلفات شهد لها الجميع بالتجرد والنزاهة، على رأسها «قصة ثورة ٢٣ يوليو». 

فى كتابه «نسيج العمر»، الذى أفاض فيه ببعض ذكرياته، أكد أنه هو من كتب مذكرات نجيب «كلمتى للتاريخ»، حيث تعرض للقاءاته المتعددة مع نجيب وتسجيل مذكراته، وهو ما أكده لى الكاتب الكبير عادل حمودة، عندما تواصلت معه لأسأله عن قصة كتابته مذكرات نجيب الثالثة، التى صدرت فى العام ١٩٨٤ عن المكتب المصرى الحديث. 

قال لى حمودة: محمد نجيب لم يكتب أبدًا أيًا من مذكراته الثلاث، ولم يكن موفقًا فى حديثه عن أحمد حمروش، فهو مؤرخ معتبر، وقد بذل مجهودًا كبيرًا فى صياغة مذكرات نجيب. 

لكن كيف وصل عادل حمودة إلى محمد نجيب؟ 

كيف حصل على تسجيل ما يزيد على ٢٢ شريط كاسيت له بصوته، روى فيها كل ما جرى له وجرى عليه؟ 

كيف أصبحت وثائق وخطابات نجيب العامة والخاصة فى حوزة عادل حمودة؟ 

الإجابة نجدها فى تقديم عادل لكتابه الذى يحمل عنوانين. 

الأول هو «الوثائق الخاصة للرئيس نجيب». 

والثانى «ضحية يوليو.. الوثائق السرية للرئيس محمد نجيب». 

كانت البداية لكل ما حدث فى صيف العام ١٩٧٥. 

دخل عادل ليقدم واجب العزاء فى والد صديق له، فوجد أمامه رجلًا أبيض الشعر منحنى الظهر قليلًا، يمسك بأسنان فمه «بايب» قديمًا، قال لى عنه صديقه: إنه محمد نجيب. 

يحكى عادل: ذهلت.. لأننى كنت أتصور أن محمد نجيب قد مات، وأنه أصبح فى ذمة التاريخ، وكان هذا التصور عامًا فى ذهن كل الأجيال الجديدة فى مصر، التى كبرت؛ لتجد نفسها فى حضن جمال عبدالناصر وفى حضن أفكاره ومنجزاته، وقمت من مكانى فى سرادق العزاء، لأجلس إلى جوار محمد نجيب، تعارفنا، وتكلمنا بين فقرات قراءة القرآن، وأخذت موعدًا لزيارته فى بيته، وإجراء حوار صحفى معه، لكننى سرعان ما اعتذرت عن هذا الموعد. 

كان سبب الاعتذار- كما يؤكد عادل- هو الحملة الضارية والشرسة، التى كانت مشتعلة فى مصر لحرق جمال عبدالناصر، وتحويل كل ما يمت له بصلة إلى ذرات رماد، فخشى أن يعطى الفرصة بحواره مع محمد نجيب لمزيد من سكب البنزين على هذا الحريق، وأن يفتح بهذا الحوار سوقًا جديدة للاتجار بجمال عبدالناصر، فقرر الاعتذار عن الموعد وعن الحوار للرئيس نجيب. 

لست أدرى كيف قدر عليها عادل حمودة؟ 

كيف استجاب له عقله وطاوعه قلبه وسكت ضميره على إضاعة فرصة صحفية هائلة مثل هذه، قد لا تتكرر فى العمر مرتين؟ 

لذلك أصدقه عندما يقول: لكن شيئًا ما بقى يؤرقنى، ويؤرق أحاسيسى الصحفية، وظل هذا الشىء فى قلبى كأشواك القنفذ البرى يدمى صدرى، كلما جاءت سيرة الرئيس نجيب، أو أجد نفسى فى نقاش سلبى عن دوره فى ثورة يوليو، ومصيره الأسود بعد خروجه من السلطة. 

ما كان مستحيلًا يسره القدر مرة أخرى. 

فبعد سنوات وجد عادل حمودة محمد نجيب أمامه فى مستشفى المعادى التابع للقوات المسلحة. 

تكررت الصدفة بعد حوالى سبع سنوات، وكنا قد وصلنا إلى العام ١٩٨٢. 

كان عادل فى زيارة لأحد أقاربه فسمع صوتًا هائجًا يصرخ ويزعق ويتمنى من الله الموت، كان صاحب هذا الصوت هو محمد نجيب، يجلس على كرسى متحرك فى أحد ممرات المستشفى، وكان فى حالة هياج، وانهيار عصبى، دفع الأطباء إلى حقنه بمخدر قوى، سرعان ما هد قواه. 

أدرك عادل أن القدر يضع محمد نجيب فى طريقه مرة أخرى، فقرر ألا يضيع الفرصة من بين يديه، فلو ضاعت هذه المرة قد لا تعود إلى الأبد. 

فى صباح اليوم التالى حمل عادل الزهور والفواكه، وتوجه إلى مستشفى المعادى، طرق باب حجرة نجيب ودخل عليه ليجد مزاجه رائقًا، ومعنوياته فى القمة، وإحساسه بالحياة عاليًا، وجلس معه يدردش حتى ما بعد العشاء. 

يقول عادل: تكلمنا فى كل شىء، حياته وهو طفل فى السودان، وعن أيامه وهو ضابط فى الجيش المصرى، وعن علاقته بالضباط الأحرار، وعبدالناصر وزوجاته وأولاده، واتفقنا على أن نواصل الحوار فى بيته، الذى عاش فيه منذ اعتقاله فى ١٤ نوفمبر ١٩٥٤، والذى كان استراحة صيفية ريفية لزوجة الزعيم الوفدى السابق مصطفى النحاس، وهى السيدة زينب الوكيل، واتفقنا على أن يكون الحوار مسجلًا على شرائط كاسيت، وأن يكون حوارًا ممتدًا وطويلًا، مهما كانت الفترة الزمنية التى سيستغرقها. 

كان هذا ما حدث بالفعل، فعلى مدى شهرين سجل عادل مع نجيب أكثر من ٢٢ شريطًا، وطوال هذه المدة الطويلة تحول من صحفى إلى صديق، ومن شخص يستأذن الحراس قبل الدخول إلى شخص يأتى بلا ميعاد، ويذهب بلا ميعاد، ومن إنسان يعرفه جيدًا إلى إنسان يثق فيه. 

ترجم محمد نجيب هذه الثقة بشكل عملى، فقرر أن يمنحه وثائقه ورسائله. 

يصف عادل حمودة حصوله على وثائق نجيب بدقة، وأعتقد أن هذه كانت لحظة مهمة جدًا فى مسيرته المهنية. 

يقول: كوّن التراب فى المخزن طبقة سميكة على الأرض، عليها آثار واضحة للثعابين والفئران، وعلى الأرض أيضًا صناديق ضخمة جدًا بها الأوراق، والكتب والمجلات وألبومات الصور، فى صور غير مرتبة، وفى حالة من الفوضى والارتباك، وقفت على صندوق صغير لأكون بعيدًا عن الثعابين والحشرات التى تجرى على الأرض، لكن بعد فترة من تقليب الأوراق والصناديق نسيت خوفى، وبعد فترة أخرى نزلت على الأرض ونسيت الفئران والثعابين، وبقيت فى المخزن يومًا ويومين وعشرة، وجمعت كل ما اعتبرته أوراق محمد نجيب الخاصة. 

كان القرار أن يكتب عادل حمودة مذكرات نجيب، وأن يرفقها بالوثائق التى حصل عليها، تم الاتفاق مع الناشر أحمد يحيى، صاحب المكتب المصرى الحديث، سلمه عادل كتاب «كنت رئيسًا لمصر»، وهو العنوان الذى اختاره للكتاب، فلم يكن هذا عنوان نجيب، وجرى الاتفاق أن يكتب اسم عادل على الغلاف كمحرر للمذكرات، وأن يحصل على مستحقاته المالية. 

فى العام ١٩٨٤ صدرت الطبعة الأولى من «كنت رئيسًا لمصر»، ولن تكون فى حاجة لبذل أى جهد؛ لتعرف من اللحظة الأولى أن من كتبه هو عادل حمودة، صاحب الأسلوب الساحر، الذى لم يتخل عنه ولم يفارقه طوال مسيرته الصحفية، التى بدأت منذ العام ١٩٦٨، ولا تزال ممتدة بتفردها واشتباكها وتشابكاتها. 

ستشم رائحة أسلوب عادل حمودة من المقدمة التى كتبها محمد نجيب للمذكرات. 

يقول عادل حمودة ناطقًا بلسان نجيب: 

«أقترب الآن من النهاية، وأحزم حقائبى استعدادًا للرحيل». 

إننى فى الأيام التى يكون فيها الإنسان معلقًا بين الأرض والسماء. 

فى تلك الأيام التى يختفى فيها الجسد ويبقى نفوذ الروح، يبتعد الإنسان عن المادة ويغطى نفسه بالشفافية، وينسى الألم والدسائس والسلطة والمال والولد، ولا يتذكر إلا الحق والتسامح والصدق والخير. 

أنام على فراش، وأقرأ على فراش، وأجلس وآكل وأتحدث مع زوارى وأقاربى وأصدقائى، إنه ما بقى لى فى الدنيا وآخر ما سأراه وألمسه فيها. 

أحيا أيامى الأخيرة مع أمراضى وشيخوختى، جسدى نحيف، شهيتى ضائعة، بصرى ضعيف، حركتى نادرة، النوم يخاصمنى والأرق يرافقنى، ومع ذلك فالذكريات تلاحقنى، التفاصيل الصغيرة والكبيرة، وذاكرتى لا تزال تعذبنى بكل ما رأيته وعشته منذ طفولتى إلى الآن. 

إننى أنام ساعات قليلة جدًا، لا أتناول فى الصباح سوى بيضة واحدة مسلوقة، وفى الظهر كوب عصير، وفى العشاء كوبًا آخر من العصير، أما الأدوية فلا حصر لها، دواء فاتح للشهية، ولتصلب الشرايين، وفيتامينات، وقطرة للعين، وأقراص مهدئة، ودواء منشط للكبد، وأدوية أخرى لا أحب أن أسرد أسماءها ولا وظيفتها. 

يومى الطويل وليلى الأطول، أقضى ساعاتهما فى قراءة المصحف الشريف ودفاترى القديمة، التى نجحت فى الاحتفاظ بها طوال أكثر من ٣٠ سنة، وأحيانًا فى قراءة كتب اليوجا». 

تم الاتفاق بين محمد نجيب وعادل حمودة على نشر المذكرات، لكن هذا لم يمنع أن يروى نجيب بقلم عادل حمودة ما جرى، يقول: جاءنى بعض الأصدقاء ورحبت بهم، وتساءلت عن سر زيارتهم لى، فأجابوا بأنهم يطالبوننى بمذكرات كاملة أودعها صفحات التاريخ، وقد حاولت الاعتذار فى أول الأمر بأننى قلت كلمتى من قبل، لكنهم لم يقبلوا الاعتذار قائلين إن الكثير من الأوراق والوثائق والذكريات لا تزال حبيسة فى حوزتك، وهى ليست ملكًا خاصًا لك وحدك، لكنها ملك الأجيال الجديدة وملك التاريخ. 

انصرف الأصدقاء الذين يتحدث عنهم محمد نجيب، تركوه ليفكر وحده، وبعد أن استقر رأيه على أنه فى أيامه الأخيرة الهادئة لا يريد أن يجرح أحدًا، ولا يريد أن يعبث بسكينه فى جرح قد التأم، عاد ليفكر فيما يطرحه عليه أصدقاؤه. 

يقول نجيب: قلبت فى أوراقى الخاصة وذاكرتى، وقرأت ما نشرته من قبل، وما نشر عنى، وأحسست فعلًا أن عندهم حقًا، فهناك وقائع لم أجد من المناسب ذكرها، وهناك تفاصيل تجاهلتها، وهناك أسماء لم أنشرها، وأدركت أنه قد بقى على واجب لابد من أدائه قبل الرحيل، أن أكشف ما سترته، وأزيح ما واريته وأكمل الصور التى أشرت إلى وجودها. 

يرسم نجيب صورة مصغرة لما قام به، يقول: بدأت رحلتى الشاقة فى التفتيش عن الأوراق والذكريات، وفى مواجهة الأخطاء التى وقعت فيها، والعيوب التى لم أتخلص منها، لم أكن أتصور أن أعيش وأكتب هذه المقدمة، ولم أكن أتصور أن الله سيمد فى عمرى إلى هذه اللحظة، لحظة قراءة هذا الكتاب قبل أن تبتلعه ماكينات الطباعة، ويمكننى الآن أن أموت وأنا مستريح البال والخاطر والضمير، فقد قلت كل ما عندى، ولم أكتم شهادة، ولم أترك صغيرة ولا كبيرة إلا كشفتها، إن هذا الكتاب سيعيش أطول مما عشت، وسيقول أكثر مما قلت، وسيثير عنى جدلًا بعد رحيلى أكثر من الجدل وأنا على قيد الحياة، ولا يبقى سوى أن تؤكد هذه الصفحات صدق ما أقول، أسأل الله أن يتجاوز عمّا قصرت ويغفر لى ما أذنبت ويتقبل منى ما وقفت فيه. 

أدى عادل حمودة عمله باحترافية شديدة، كتب المذكرات دون أن يظهر تمامًا كما يليق بكاتب شبح، اختار أن يقوم بهذا الدور من أجل الحقيقة، وقد اكتمل له دور الكاتب الشبح عندما أخل الناشر أحمد يحيى باتفاقه معه، فأصدر المذكرات دون أن تحمل اسم عادل على غلافها كما اتفقا. 

أخل الناشر مرة أخرى بما اتفق عليه مع عادل حمودة فيما يخص مستحقاته المالية، وهو ما دفعه إلى أن يحصل على حقه بطريقة عملية، وهنا تأتى قصة إصداره لكتابه «الوثائق السرية للرئيس نجيب» فى العام ١٩٨٥، أى بعد أقل من عام من وفاة نجيب. 

رأى عادل أنه من العدل أن يحصل على مقابل الجهد الذى بذله، فقرر أن يصدر كتابًا عن نجيب بعد أن صدر كتاب نجيب بصياغته الكاملة. 

تولت روزاليوسف طباعة الكتاب وقدم له الكاتب الكبير صلاح حافظ بمقدمة بديعة صاغها بعنوان «يذهب القادة ويبقى الكتّاب». 

استفاد عادل حمودة من كنز الوثائق، التى حصل عليها من محمد نجيب فى كتابه الخاص. 

كانت الوثائق التى نشرها مع كتاب «كنت رئيسًا لمصر» ست وثائق فقط، بينما وصلت الوثائق التى نشرها فى كتابه الخاص «الوثائق الخاصة بالرئيس نجيب» لثلاثين وثيقة. 

عندما أعاد عادل حمودة نشر كتابه «الوثائق الخاصة بالرئيس نجيب» فى العام ٢٠٠٢ بعنوان «ضحية يوليو» لم يضف ولم يحذف شيئًا إلى الكتاب، كان يرى أنه مكتمل، وأنه وثيقة تاريخية، وقد كان كذلك بالفعل، فما جاء فيه استكمل به ما سبق وكتبه على لسان نجيب فى مذكراته التى باعتراف الرئيس نفسه، أنها المذكرات الوحيدة المكتملة والحقيقية.