رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لا عدالة في التوزيع.. الجوع يفتك بالنازحين والمساعدات المجانية تُباع في الأسواق

النازحين
النازحين

ليلة كاملة، قضاها فتحي، في مخيم رفح وسط قطاع غزة، دون مأكل أو مشرب وطفلته الصغيرة 5 أعوام. أضاعا ساعات الليل في النوم، لكن مع بزوغ الصباح بدأ صراخ الصغيرة يعلو بسبب خواء معدتها من الطعام.

خرج “فتحي” الذي استشهدت زوجته وإبنه الأكبر في قصف إسرائيلي على منزل العائلة في دير البلح وسط غزة، للبحث عن طعام لابنته داخل سوق نجمة القريب من المخيم، إلا أنه تفاجئ بمنتجات غذائية جاءت مع المساعدات الإنسانية المجانية تُباع في السوق مقابل أموال.

مخيم رفح هو أحد مخيمات وكالة الغوث التابعة للأمم المتحدة «الأونروا» يقع جنوب غزة ويضم نحو 125 ألفًا و304 لاجئين، وبه مركزان صحيان.

المصدر - الموقع الرسمي لـ«الأونروا»

 

يقول: «عرفت أنها منتجات تخص المساعدات التي تأتي إلى غزة بسبب أن مدونًا عليها بأنها غير مخصصة للبيع، كان منها بسكويت للأطفال مدعمًا بالفيتامينات والمعادن ويُباع بـ4 شيكل (8.20 جنيهات مصري - 1.8 دولار أمريكي) رغم أنها مساعدات مجانية».

لا يملك فتحي أموالًا حتى يبتاع البسكويت لابنته إلا أنه وجد كراتين كاملة تُباع منه في السوق: «البسكويت يُباع رغم أنه هبة للأطفال ويباع السريلاك الجاف والطحين ولبن الأطفال والعدس وبعض البقوليات في مراكز الإيواء التي تأوى آلاف النازحين».

في شمالي غزة، رغم المجاعة نتيجة الحصار الإسرائيلي، يبيع بعض مسؤولي المؤسسات الإغاثية، المساعدات الإنسانية المجانية التي تدخل إلى القطاع في الأسواق للنازحين بأسعار مضاعفة، أو يتم سرقتها من المخازن؛ نتيجة سوء التوزيع وحالة الانفلات الأمني.

إنفوجراف الدستور

 

آلية دخول المساعدات الإنسانية

تتبع المساعدات الإنسانية آلية محددة للدخول إلى قطاع غزة، تبدأ من إدخال مصر المساعدات عبر معبر رفح البري الذي تتحكم فيه من جانبها، وتصل الشاحنات إلى معبر العوجة الحدودي بين مصر وإسرائيل، ثم يتم تفتيشها من الجانب الإسرائيلي وتتجه مي يتسلمها الهلال الأحمر الفلسطيني، وآخر محطة تصل المساعدات إليها هي مخازن وكالة الأمم الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) في قطاع غزة من أجل توزيعها.

ولدى الأونروا آلية في التوزيع، تبدأ بتقسيم المنطقة إلى مربعات تحت إشراف الوجهاء كلًا في مربعه، ثم يتم تسليم قائمة الأسر المُرشحة لاستلام الطحين من الوجهاء إلى موظف الأونروا المُشرف من أجل تسليمها للمستفيدين.

المصدر - الموقع الرسمي لمنظمة الأونروا

 

توزيع المساعدات مسؤولية موظفي الإغاثة 

يلقي رائد النمس، المتحدث الرسمي باسم الهلال الأحمر الفلسطيني، باللوم على موظفي «الأونروا» بسبب مسؤوليتهم المباشرة في توزيع تلك المساعدات الغذائية داخل وخارج المخازن التابعة لهم، موضحًا أنهم في نفس الوقت موظفون فلسطينيون يعانون مثل سكان قطاع غزة من أزمة الجوع والفقر ويتم قصفهم من قبل الاحتلال الإسرائيلي.

يقول لـ«الدستور»: «موظفي الأونروا هم من يستلمون المساعدات ويقوم البعض منهم ببيعها بأسعار مرتفعة في الأسواق للنازحين وسكان القطاع، لكن الأمر يتم بشكل فردي وليس منظمًا، حيث رصدنا 4 وقائع لموظفي التوزيع وهم يبيعون بالأسواق».

 

رائد النمس - مسؤول الهلال الأحمر الفلسطيني

 

يؤكد ذلك، أيمن نصري، رئيس المنتدى العربي الأوروبي للحوار وحقوق الإنسان بجنيف، بأن «الأونروا» لها دور رقابي على آلية التوزيع للمساعدات المجانية، وهي المسؤولة المباشرة عنها، إذ تضم 14 ألف موظف فلسطيني يعاني ويُقصف مثل النازحين.

البعض منهم يأخذ المساعدات من المخازن ويقوم ببيعها بأسعار مضاعفة استغلالًا لحالة الانفلات الأمني، وفق نصري، الذي يوضح لـ«الدستور» أنه نتيجة الحرب وعدم استقرار الأوضاع فلا توجد بيانات تثبت كميات المساعدات التي تدخل أو تخرج.

فيما تشير نبال فرسخ، مسؤولة الإعلام بالهلال الأحمر الفلسطيني، لـ«الدستور» إلى أن أزمة الغذاء والحصار تدفع مسؤولي توزيع المساعدات الغذائية إلى بيعها في الأسواق، أو السطو عليها داخل المخازن، ما يزيد من أزمة الجوع لعدم وصول الغذاء لمستحقيه، وحرمان البعض من الأغطية والمحارم والخيم لعدم امتلاكهم أموال لشرائها.

إنفوجراف الدستور

 

نهاد: «الخيم المجانية تُباع أمامنا»

نهاد، فلسطينية، تقطن في مخيم رفح، من اللاتي لا يصل إليهن المساعدات بشكل كاف، فلا تملك أموالًا كي تبتاع خيمة من سوق نجمة، إذ لم تستطع الحصول عليها من المساعدات الإنسانية المجانية، لتتفاجئ بها تُباع في السوق.

تقول: «هذه الخيم ليست للبيع جاءت مع المساعدات المجانية، كي توزع علينا نحن النازحون وتقينا من البرد خلال الشتاء، وكل أسرة من المفترض أن تحصل على خيمة، لكن الموظفين في المخيم يتاجرون بها».

بلغ سعر الخيمة المجانية التي تباع في سوق نجمة بحسب نهاد 3 آلاف شيكل 25 (ألف جنيه مصري – 813 دولارًا أمريكيًا): «نحن بلا أغطية أو خيم وملابس، وأطفالنا الصغار يمرضون بسبب البرد الشديد لا سيما في الليل نتيجة أن المساعدات أما تُباع أو تتم سرقتها».

تكدس مخيم رفح - الصورة من الأونروا

في 9 نوفمبر الماضي، تداول فيديو على نطاق واسع لعشرات الأشخاص يقتحمون مستودعات ومراكز توزيع المساعدات التابعة لها واستولوا على الطحين (الدقيق) ومواد البقاء الأساسية، وعلقت الأونروا على هذا الفيديو عبر بيان لها قالت فيه: «سيجرى تحقيق في الواقعة لأنها علامة مقلقة على أن النظام المدني بدأ في الانهيار بعد ثلاثة أسابيع من الحرب والحصار المشدد على غزة».

 

سبب سرقة وبيع المساعدات

يُرجع رائد النمس، مسؤول الهلال الأحمر الفلسطيني، السرقات التي حدثت إلى التعنت الإسرائيلي في إدخال كميات قليلة للغاية من المساعدات الغذائية التي لا تفي بالاحتياجات ولا تتناسب مع الوضع الإنساني الكارثي في غزة.

النمس يوضح أن هناك أزمة في الحصول على الخبز والغذاء والعلاج، لأن قوات الاحتلال تمنع وصول شاحنات المساعدات إلى شمال غزة إلا بكميات قليلة، مبينًا أن ذلك الأمر يدفع مسؤولي التوزيع إلى سرقة المساعدات وبيعها في الأسواق.

يضيف: «من المفترض أن الهلال الأحمر الفلسطيني هو من يتسلم المساعدات سواء كانت مواد إغاثية أو طبية أو غذائية، وتسليمها إلى المؤسسات الإغاثية المحلية التي تقوم بتوزيعها على الحالات الأشد ضررًا».

 

 

يتوقع أن يكون نحو نصف سكان غزة في مرحلة الطوارئ، التي تشمل ارتفاع معدلات سوء التغذية الحاد وزيادة الوفيات، وفقًا لتقرير صادر عن نظام مراقبة الجوع التابع للأمم المتحدة في 22 ديسمبر الماضي.

 

عماد: «لا نأكل سوى وجبة في اليوم»

كان عماد زياد، من بين تلك الحالات الأشد ضرر التي تحتاج إلى الغذاء بشكل عاجل، ورغم ذلك لم يحصل عليه: «المساعدات لا توزع على النازحين، بتنا لا نأكل سوى وجبة واحدة في اليوم وأحيانًا لا نحصل عليها».

أصيب عماد الذي كان يقطن في غزة ونزح إلى مخيم المواصي في رفح، بفقر في الدم نتيجة قلة الغذاء والجوع المستمر الناتج عنه: «أنا نازح في مراكز دير البلح التابعة للأونروا، وأجد الكابونات والسلع الغذاىية تُباع في الأسواق وبأسعار مرتفعة للغاية».

وجد عماد أيضًا بعض المنتجات الغذائية مرتفعة الثمن مثل العدس الكيلو بـ25 شيكلًا (209 جنيهات مصري - 6 دولارات)، بعد أنا كان قبل الحرب بـ5 شيكل (41 جنيهًا مصريًا - 1.36 دولار)، والطحين الكيلو بـ1000 شيكل (873 جنيهًا مصريًا - 271 دولارًا): «لا أملك المال لشراء المساعدات التي كان من المفترض توزيعها بشكل مجاني علينا».

بيع المساعدات والخيم

حجم المساعدات التي وصلت

تكشف نبال فرسخ، المتحدثة باسم الهلال الأحمر الفلسطيني، حجم المساعدات التي تسلمها الهلام الأحمر منذ بداية المساح بدخول المساعدات في 21 أكتوبر وحتى 25 يناير الماضي عبر معبر رفح وهي 5939 شاحنة، هناك 4001 شاحنة منها وزعها الهلال بالتنسيق مع وزارة الشؤون الاجتماعية و1938 شاحنة لصالح الأونروا، الذي استلم خلال نفس الفترة 1472 شاحنة أخرى عبر معبر كرم أبو سالم.

نبال فرسخ - المتحدث باسم الهلال الأحمر الفلسطيني

وسلم الهلال الأحمر خلال نفس الفترة 73% من حصته من الشاحنات التي يمثل الغذاء نسبة 65% منها إلى وزارة الشؤون الاجتماعية، و27% الباقيين إلى الأونروا كي تكون مسؤولة عن توزيعها.

توضح أنه قبل الحرب كان يدخل في اليوم 500 شاحنة ولكن العدوان أدى إلى دخول 170 شاحنة من المعبرين، مشيرة إلى أن تلك المساعدات لا سيما المواد الغذائية لا تلبي 10% من الاحتياجات في القطاع.

 

لا توزيع عادل للمساعدات

حسن أبو عادل، أحد النازحين، يقول إنه لا توزيع عادل للمساعدات المجانية في غزة، حيث يتم بيعها في الأسواق بأسعار مضاعفة كنوع من المضاربة، مضيفًا: «يؤدي ذلك الأمر إلى مضاعفة معاناة النازحين، وتفاقم الوضع الاقتصادي».

يوضح أنه في سوق نجمة داخل رفح، تباع المساعدات الغذائية للنازحين وهي مدون عليها غير مصرح بالبيع، لذلك لا تصل إلى مستحقيها بشكل عادل لعدم امتلاكهم أموال لشرائها.

 

فقدان السيطرة على المساعدات

ينفي أيمن نصري، رئيس المنتدى العربي الأوروبي للحوار وحقوق الإنسان بجنيف،  قدرة الأونروا في تلك الأوضاع الأمنية غير المستقرة على توصيل المساعدات إلى مستحقيها، وفقدانها السيطرة على المخازن والموظفين وبيع المساعدات في الأسواق.

ويفسر ذلك بعد توافر الغذاء وقلة المساعدات والحصار، ما جعل السلع الغذائية لها قيمة مرتفعة وتُباع وتُشترى نتيجة ندرتها: «إذا سمحت إسرائيل بدخول أكبر قدرًا من المساعدات لن يكون هناك بورصة سلعية لأن كل النازحين سيأخذون كفايتهم».

أيمن نصري - رئيس المنتدى العربي الأوروبي للحوار وحقوق الإنسان في جنيف

حاولنا الاتصال أكثر من مرة بالمتحدث باسم الأونروا عدنان أبو حسنة عبر الاتصالا الهاتفي ورسائل «الواتساب» دون رد، لكنه سبق وصرح بأن الأونروا تعاني عجزًا ماليًا يقدّر بـ200 مليون دولار أمريكي، إلى جانب عجز في توفير 75 مليون دولار مطلوبة لبرنامج غزة الغذائي الذي تقدم من خلاله الوكالة «الكوبونات» لحوالي مليون ومئتي ألف لاجئ فلسطيني في القطاع يصنفون من الفئات الأشد فقرًا.

عدنان أبو حسنة - المتحدث الرسمي باسم الأونروا

فيما تؤكد نبال فرسخ، أن ربع سكان غزة يعاني من الجوع، وكل السكان بلا استثناء يعانون من نقص شديد في الطعام تحديدًا الشمال، موضحة أن 85% من الفلسطينيين أصبحوا نازحين، ما أحدث مشكلة في الغذاء ودفع لحدوث سرقات وتربح، نتيجة ضعف القدرة الاستيعابية لمراكز الإيواء.

ما تزال ابنة “فتحي” تصرخ نتيجة خواء معدتها من الطعام، بينما تبحث “نهاد” عن خيم مجانية تقيها البرد، فيما لم يستطع “عادل” أن يتحصل على وجبة وحيدة في اليوم بسبب منع إسرائيل دخول المساعدات بشكل كاف، واستمرار بيعها في الأسواق.