رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كل الألعاب للتسلية

شرط الكتابة

يرن الهاتف الموجود فى الغرفة الصامتة ويتردد حازم كثيرًا قبل أن يرفع السماعة، وحينما رفعها أتاه صوت زوجته فزاده ارتباكًا.. كانت تسأله بدهشة:

- سفر إيه يا حازم اللى جه فجأة ده؟

يرد بصوت يحاول أن يجعله طبيعيًا:

- مهمة يا مها.. مهمة ضرورية هخلصها وأرجع، اطمنى دى حاجة كويسة.

ترد بشرود:

- طيب خلى بالك من نفسك، ينفع أعرف إنت فين؟

يهمس مبتسمًا:

- ينفع تعرفى إنى فى أمان.

تنتهى المكالمة ويعود ليحدق فى الفراغ.

لدى حازم مكتبة صغيرة شبه خالية إلا من بعض الكتب الضخمة، يُمسك أحدها فى فضول، كان يحمل عنوان «القانون الجنائى». يعيده إلى مكانه ويجلس على السرير الصغير، ثم يفرد ظهره بكامل ملابسه ويذهب فى نوم عميق دون أن يدرى.

 

يشعر الإنسان أحيانًا فى أثناء نومه بحضور شىء ما ثقيل فى عالم الواقع، يظل هذا الحضور يزداد كثافة وثقلًا حتى ينجح فى نقل النائم إلى حال اليقظة، وهذا ما حدث، فقد كان حازم ينام ذلك النوم الخالى من الأحلام، ثم يشعر بجلوس شخص ما فى عالم الواقع بالقرب منه، ويختلط ذلك الحضور برائحة بن قوية مصحوبة بصوت ارتشاف متكرر، وحينما يفتح عينيه يجد سامر بك يرتشف القهوة ويجلس مبتسمًا محدقًا فى حازم النائم، وما إن يفتح حازم عينيه حتى يبادره سامر بك:

- للأسف هوه ده الوقت المتاح إنى أقعد معاك فيه، وطبعًا ماقدرش أصحيك، ما يصحش، بس قلت عقلك القلقان هيخليك تصحى، ادخل الحمام واغسل وشك وأنا منتظرك.

لم يجد حازم كلمة مناسبة يرد بها فاكتفى بالصمت. يدخل الحمام ويغسل وجهه ويعود ليجد سامر ينتظره على الكرسى المقابل للمكتب وهو يشير إليه بالجلوس على كرسى المكتب:

- اللاب توب مفتوح يلا نبدأ.

يُحدق حازم فى شاشة اللاب توب منتظرًا ويبدأ سامر بك هامسًا:

- القاهرة فى شتاء ١٩٦٨.

يرفع حازم رأسه دون أن يكتب، ويسأل:

- هو سيادتك هتملينى ولا هتحكى وأنا أكتب بطريقتى؟

يرد سامر:

- اللى يريحك.

يجيبه حازم إجابة كانت قاسية:

- ما حضرتك لو بتعرف تكتب بدل ما تملينى اكتب على طول! أو هات أى شاب ومليه! لكن اللى فهمته إنك عايز تكتب بطريقتى أنا..

يتقبل سامر بك ذلك الرد بمرونة.. يهز رأسه موافقًا.. ينظر إليه حازم طويلًا ثم يسأله:

- مين سامر الشرقاوى؟

يُعجَب سامر بك بالسؤال ويشعر بعدة مشاعر مختلطة كان منها بلا شك الإحساس بالنجومية والشهرة والاهتمام، يفرد ساقيه ويُغمض عينيه قليلًا ثم يفتحهما ويقول بطريقة تظهره مختلفًا عن جميع خلق الله:

- أنا يا أستاذ إنسان مختلف، أنا مش ملاك طبعًا ولا شيطان، تقدر تقول بنى آدم مختلف، قدرى من أول لحظة جيت فيها الدنيا كان كده، كان فيه دور لازم سامر يلعبه وشيلة لازم يشيلها زى «المتنبى» ما قال وكأنه بيوصفنى بالظبط: «على قدر أهل العزم تأتى العزائم»، الإنسان المسئول بيتولد كده.

يصمت سامر وهو يراجع أثر كلماته الرصينة البليغة على وجه حازم، فلم يجد سوى ملامح محايدة وفم صموت، لا أثر للإعجاب أو الدهشة، فيكمل محاولًا إثارة اهتمامه أكثر:

- وحتى العمليات الكتيرة أوى اللى كان فيها قتل أو سجن أو تنكيل بشخصيات فاسدة تستحق أكتر بكتير من اللى اتعمل فيهم، كنت باعمل ده وأنا هادى ومبسوط جدًا، مش سادية أو تشفى والأمراض العجيبة اللى بيحاولوا يشبهونا بيها، لا، ده إحساسك بقيمة المكان والمكانة اللى إنت بتمثلها، كل الحاجات الفردية اللى تبان إنها أخطاء كانت فى النهاية عقاب لأفراد منحرفين من أجل المحافظة على مجتمع كامل سليم.

يباغته حازم بسؤال:

- هو إنت عايزنى أكتب من إمتى لإمتى؟

يرد سامر شاردًا:

- من الأول.. من الأول خالص.

يهز حازم رأسه متفهمًا:

- يبقى نبدأ من الطفولة يا سامر بيه، فين وإمتى؟ وترتيبك بين إخواتك؟ وذكريات محفورة فى ذاكرتك.. اتفضل.

ينظر سامر إلى الساعة ثم يخلع حذاءه ويتجه إلى السرير الصغير ويجلس متكئًا على وسادته:

- بحكم إن والدى كان بيتنقل من محافظة لمحافظة فأنا اتولدت فى «أسيوط» فى عز الحر وقعدنا هناك سبع سنين، كنت الطفل التالت والأخير، وكان أبى قاسيًا جدًا، وفى يوم....

يتوقف سامر فى ضيق ويرتدى حذاءه مُرددًا:

- بعدين نكمل.. عندى شغل مهم.

يقف فى ضيق كأنه يهرب من شىء يحاصره وهو يتمتم بشىء ما، فهم منه حازم ما يفيد بأن عليه التحرك الآن لأن الوقت المخصص قد انتهى، وعلى باب الغرفة يلتفت سامر بوجه جدى مُبتسمًا ويقول بنبرة حاول جاهدًا أن يجعلها صادقة:

- اكتب عن طفولة جميلة وأب طيب وأم حنون.

من رواية: كل الألعاب للتسلية