رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الضمير المصرى قبل محكمة لاهاى

فى ٢٦ يناير أصدرت محكمة العدل الدولية، ومقرها لاهاى، قرارها فى الدعوى التى أقامتها دولة جنوب إفريقيا، وفيها تتهم إسرائيل بارتكاب جريمة «الإبادة الجماعية» فى غزة. ولم تتخذ المحكمة قرارًا واضحًا بشأن جوهر الدعوى الرئيسى، أى هل تمثل الجرائم الإسرائيلية إبادة جماعية أم لا؟، وأيضًا لم تصدر قرارًا بوقف قوات الاحتلال إطلاق النار. لكنها طالبت فى قراراتها بحق الفلسطينيين فى الحماية، وأن تتخذ إسرائيل الإجراءات اللازمة لمنع الإبادة الجماعية، وكذلك لدخول المساعدات إلى غزة. وفى ذلك السياق قالت رئيسة المحكمة إنه «من وجهة نظر المحكمة يبدو أن بعض الأفعال والتقصيرات التى قالت جنوب إفريقيا إن إسرائيل ارتكبتها فى غزة يمكن أن تندرج ضمن أحكام اتفاقية منع الإبادة الجماعية». 

تجنب القرار الاعتراف الواضح بالإبادة الجماعية، وتأرجح بين «يبدو» و«بعض الأفعال». وبطبيعة الحال لم يكن للمحكمة، فى ظل توازن القوى الدولية، أن تمضى لأبعد من ذلك، خاصة أنه لا تتوفر لديها أى آلية لتنفيذ قراراتها. وعلى ضوء هذه القرارات الوسط، أعلنت واشنطن أن قرار المحكمة يتفق مع رؤية أمريكا بأن لإسرائيل الحق فى اتخاذ الإجراءات التى تضمن عدم تكرار هجوم السابع من أكتوبر. وبالرغم من أنه «يبدو» للمحكمة، فإن قراراتها تعد انتصارًا كبيرًا للمقاومة الفلسطينية، لأنها المرة الأولى التى تتم فيها محاكمة الكيان على المستوى الدولى بتهمة إبادة شعب، بل كان انتصارًا أيضًا مجرد رفض المحكمة الطلب الإسرائيلى بعدم النظر فى الدعوى وقبولها التحقيق فيها. ولقد أشادت أطراف دولية كثيرة بما أقرته المحكمة، وقدرت أطراف عربية أن ذلك أقصى ما يمكن الوصول إليه فى ظل موازين القوى الراهنة. 

ولا شك أن مجرد الإعلان عن محاكمة إسرائيل بتلك التهمة قد وسع من نطاق دوائر الغاضبين على الكيان فى أوروبا وغيرها، ومن ثم فإننا نتحدث عمليًا عن انتصار ومكسب معنوى، دعائى، أدبى، حققته المقاومة فى تعرية طبيعة الكيان الصهيونى على مرأى من العالم وتجريسه وفضح طابعه الاستعمارى الاستيطانى. وربما تجدر الإشارة إلى أنه قبل «لاهاى» كان الضمير المصرى سباقًا إلى تعرية طبيعة تلك القاعدة العسكرية الاستعمارية التى أطلقوا عليها صفة دولة واخترعوا لها شعبًا، وفى ذلك الإطار توالت جهود أبناء الشعب المصرى فى الوقوف ضد التطبيع، وفى كشف جذور الكيفية التى قام بها الكيان، والدور الذى يقوم به. 

لقد حاكم الضمير المصرى تلك القاعدة العسكرية طويلًا، وخرج بقرارات واضحة وصريحة أقرتها نقاباته وهيئاته القومية وبيانات كتّابه ومثقفيه وعلمائه، وقد لا يسمح المجال هنا بالاستشهاد بكل تلك المواقف والكتابات، لكن كان من آخرها كتاب الزميلة رباب يحيى «مقاومة التطبيع» الذى صدر مؤخرًا، وسبقه كتاب إيهاب الحضرى «اغتصاب الذاكرة.. الاستراتيجيات الإسرائيلية لتهويد التاريخ»، وقدم أحمد بهاء الدين شعبان كتابه «إلا فلسطين»، وواصلت د. عواطف عبدالرحمن أيضًا أبحاثها حول «المشروع الصهيونى فى مصر»، وغير ذلك كثير. وفى كل ذلك أصدرت محكمة الضمير المصرى قراراتها الواضحة مستلهمة تاريخ الكفاح والنضال من أجل التحرر.