رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فيلم رعب اسمه الذكاء الاصطناعى

الذكاء الاصطناعى
الذكاء الاصطناعى

السؤال الراهن الذى يضطرم فى شتى المجالات، يتمحور حول الذكاء الاصطناعى وتطوراته، التى قد تبدو مذهلة للبعض ومُرعبة للبعض الآخر، فقد انبرى الباحثون والمحللون فى السنوات الأخيرة لتحليل تلك التطورات وآثارها المُحتملة فى مواقف غلبت عليها ثنائية التشاؤم والتفاؤل، بيد أن السؤال الفلسفى عن الذكاء الاصطناعى كانت له آفاق أخرى تبلورت فى الدول الغربية وتركت بعض الظلال على الكتابات العربية التى عكست حالة التوجس والقلق.

ماهو الذكاء الاصطناعى؟

- الذكاء الاصطناعى هو قدرة أجهزة الكمبيوتر الرقمية والروبوتات، التى تتحكم فيها على أداء المهام، التى كانت فى السابق من اختصاص البشر. فى العالم المعاصر يتصل الذكاء الاصطناعى بمجموعة كبيرة من الخوارزميات وأدوات التعلم الآلية التى تتيح الحصول على البيانات وتحديد الأنماط وتحسين العمليات بسرعة.

تمت صياغة مصطلح الذكاء الاصطناعى فى عام ١٩٥٦، من قبل جون مكارثى، فى أول مؤتمر للذكاء الاصطناعى فى كلية دارتموث، وتركز برمجة الذكاء الاصطناعى على مهارات التعلم والاستدلال والتصحيح الذاتى، كما يمكن استخدام أنظمة الذكاء الاصطناعى لإنشاء روبوتات الدردشة التى تولد النصوص، بالإضافة إلى التعرف على الصور والصوت، والرؤية الآلية، ومعالجة اللغات الطبيعية، والروبوتات، والسيارات ذاتية القيادة.

كيف نشأ الذكاء الاصطناعى؟

- كانت الفكرة الأساسية للذكاء الاصطناعى موجودة منذ العصور القديمة، ولكن لم تحصل على اسمها إلا فى الخمسينيات من القرن الماضى، الذكاء الاصطناعى عبارة عن آلات ذكية يمكنها التصرف والتفكير مثل البشر، أو حتى أفضل من البشر، وفى العقود الأخيرة أصبح الذكاء الاصطناعى قويًا بشكل متزايد مع تطوير أساليب مختلفة لتحسين فاعليته.

شهدت الثمانينيات والتسعينيات وما بعدهما طفرة فى التكنولوجيا أدت إلى عدد كبير من تطبيقات الذكاء الاصطناعى الجديدة، بدءًا من الوكلاء الافتراضيين القادرين على التواصل مع العملاء عبر الهاتف أو المحادثات عبر الإنترنت وتداول الأسهم الآلى إلى منتجات مثل Siri من «آبل»، الذى يفهم طلبات المستخدمين باستخدام الأوامر الصوتية.

اليوم، يتم استخدام الذكاء الاصطناعى أكثر فأكثر فى العديد من المجالات، بدءًا من الرعاية الصحية، حيث يقوم بالتشخيص بناءً على آلاف الصور والسجلات الطبية، إلى التمويل، حيث تستخدم البنوك التحليلات التنبؤية، وحتى مساعدة المستثمرين على اتخاذ قرارات أفضل بشكل أسرع من أى وقت مضى.

فلسفة الذكاء الصطناعى

فى خضم تلك الرحلة التطورية، لم تكن الفلسفة بمنأى عن الذكاء الاصطناعى، فقد لعبت الفلسفة، باستفساراتها حول طبيعة المعرفة والتفكير والوعى، دورًا محوريًا فى تشكيل أسس الذكاء الاصطناعى بتصدى الفلاسفة لأحد الأسئلة الأساسية عن طبيعة الذكاء البشرى. 

فى تقرير موسع، ألقى موقع the collector الضوء على العلاقة بين الذكاء الاصطناعى والفلسفة، بالإشارة إلى دور النظريات الفلسفية للمنطق والاستدلال واللغة الأساس للنماذج والخوارزميات الحسابية لأنظمة الذكاء الاصطناعى فى ذلك. علاوة على تحفيز المناقشات الفلسفية حول الوعى والإدراك والتفكير الأخلاقى، والمناقشات حول ما إذا كان الذكاء الاصطناعى قادرًا على امتلاك هذه الصفات، وما هى العواقب الأخلاقية التى تنشأ عن الآلات الذكية.

يركز التقرير على فكرة حضور السؤال الفلسفى عن الذكاء الاصطناعى منذ القدم، فمع أرسطو «٣٨٤-٣٢٢ ق.م»، الذى لم تكن له مساهمة واضحة فى تطوير الذكاء الاصطناعى؛ بسبب الفجوة الزمنية الواسعة بين عصره وظهور الذكاء الاصطناعى كمجال، صيغت القوانين التى تحكم العقلانية، واخترع أرسطو أول نظام للمنطق الرسمى، فأثرت بعض مفاهيمه وأساليبه الفلسفية على أبحاث تطوير الذكاء الاصطناعى.

كان نظام القياس المنطقى، الذى ابتكره أرسطو هو الخطوة الأولى نحو الآلية الأساسية التى من شأنها أن تسمح للبشر باستخلاص النتائج من المقدمات بطريقة ميكانيكية. وقد وضع هذا الأساس للمنطق الرسمى المعاصر والتفكير الاستنتاجى، إذ تستخدم أنظمة الذكاء الاصطناعى الخوارزميات لمعالجة المعلومات، وإجراء الاستدلالات، واستخلاص النتائج، فقد قدّم الإطار المنطقى لأرسطو أساسًا لبناء نماذج حسابية للاستدلال الذى تستخدمه هذه الخوارزميات.

فى وقت لاحق، وضع الفيلسوف رينيه ديكارت، أحد أكثر الفلاسفة تأثيرًا فى العصر الحديث، آراءه حول الذكاء الاصطناعى فى كتابه الشهير «تأملات فى الفلسفة الأولى»، بوضع الأساس لإمكانية وجود آلات تتصرف كما لو كانت تمتلك عقولًا ووعيًا مثل البشر. وفى عام ١٩٥٠، أثار عالم الرياضيات وعالم المنطق البريطانى آلان تورينج سؤال «هل تستطيع الآلات أن تفكر؟»، ما أجج جملة من المناقشات حول القدرات الجسدية والفكرية للشخص ومدى اقتراب الآلة منها. 

التوجه الحديث

تطور التصور الفلسفى الحديث للذكاء الاصطناعى بشكل ملحوظ منذ ديكارت وتورينج. اليوم، يدرك العديد من الفلاسفة أن الآلات يمكنها محاكاة جوانب الإدراك البشرى وصنع القرار، لكنهم أقل اقتناعًا بأن الآلات واعية حقًا أو تمتلك عقلًا بنفس المعنى الذى يمتلكه البشر.

أحد الجوانب المهمة للفلسفة المعاصرة المعنية بالذكاء الاصطناعى هو اعتمادها على العلوم المعرفية. ينظر علماء الإدراك إلى العقل باعتباره نظامًا حسابيًا، لذلك سعوا إلى فهم كيف يمكن للخوارزميات والبرامج أن تحاكى عمل العقل البشرى. ومع ذلك، فإنهم يميلون إلى توخى الحذر بشأن مدى قدرة الأنظمة الاصطناعية على فهم المعنى أو الاستدلال الحقيقى بشأن المعلومات بالطريقة التى يفعلها البشر.

هناك أيضًا مجال داخل الفلسفة يسمى فلسفة العقل يتعامل مع الأسئلة المتعلقة بالوعى وما إذا كان ينشأ من العمليات الحسابية، يرى بعض الفلاسفة أن الوعى ينشأ من حسابات معقدة، بينما يدعى آخرون أن الوعى لا يمكن أن يكون آليًا على الإطلاق.

نهج آخر تجاه الذكاء الاصطناعى فى الفلسفة يأتى من الأخلاق. يحرص الفلاسفة على استكشاف القضايا الأخلاقية التى تنشأ عند تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعى، مثل موضع المسئولية عن تصرفات الآلة، ومن يتحمل الأخطاء أو المسئولية عن سلوك الآلة مقارنة بالسلوك البشرى. لكن معظم الفلاسفة يقرون بأن أنظمة الذكاء الاصطناعى يمكن أن تحقق إنجازات رائعة، خاصة عندما يبنيها الخبراء بمكونات معقدة لصنع القرار تشبه عمليات التفكير البشرى.

مستقبلنا البشرى

اليوم، لا يكف الفلاسفة المعاصرون فى الغرب عن التطرق إلى المآلات المستقبلية المحتملة للذكاء الاصطناعى. واحد من أبرز الكتب التى صدرت مؤخرًا بهذا الصدد كتاب «عصر الذكاء الاصطناعى ومستقبلنا البشرى»، الصادر بترجمة عربية عن دار «التنوير»، من تأليف: هنرى كيسنجر وإريك شميت ودانييل هوتنلوشر، والذى فيه يبرز السؤال عن مستقبل الوجود البشرى فى ظل التطورات بالمجال.

يتفق الباحثون على أن التطورات الأخيرة بالذكاء الاصطناعى باتت مغيرة للبنى الاجتماعية والسياسية للمجتمعات، كما أنها تغير ما يفهمه الإنسان عن نفسه وواقعه، وتجعل الأسئلة عن دورنا فى العالم، وما تعنيه الكرامة الإنسانية والاستقلالية الفردية ملحة. 

يوضح المؤلفون عددًا من المعضلات التى يثيرها الذكاء الاصطناعى، رغم ما يتيحه من إمكانات هائلة، فى عوالم الإعلام والسياسة والخطاب والترفيه. واحدة من المشكلات التى يركز الكتاب عليها هى استخدام الذكاء الاصطناعى لتعزيز التحيزات وتقليل فرص الوصول إلى الحقيقة الموضوعيّة، ففى عصر الذكاء الاصطناعى قد تخيب آمال غالبية البشر الذين لا يفهمون عمليات التكنولوجيا وآلياتها. 

يركز الكتاب على أهمية اضطلاع البشر بدور فى تحديد دور الذكاء الاصطناعى، وجوانب الحياة التى يجب الاحتفاظ بها للذكاء البشرى، وبناءً على ذلك، يدعون إلى تصميم أهداف الذكاء الاصطناعى بعناية، خاصة فى المجالات التى يمكن أن تكون قراراته فيها قاتلة، وعدم السماح له باتخاذ إجراءات لا رجعة فيها من دون إشراف بشرى أو تحكم مباشر، وأنه على كل مجتمع أن يحدد النطاق الكامل للاستخدامات المسموح بها وغير المسموح بها للذكاء الاصطناعى بمختلف المجالات. 

يحدد من نحن 

فى وقت سابق، نُشرت ترجمة عربية أيضًا لكتاب «الخوارزمية البشرية.. كيف يعيد الذكاء الاصطناعى تحديد من نحن»، من تأليف الكاتبة فلين كولمن، وفى مقدمته تقول: «لأول مرة فى التاريخ البشرى، أصبحنا نصنع آلات ستفكر وتتطور من دون سيطرة بشرية عليها، وبالتالى أوشك عصر تفوقنا الفكرى على الانتهاء. يحتاج الجنس البشرى إلى التخطيط لهذا التحول الجذرى، وعلينا أن ننتظر لنر إذا ما كانت الآلات الذكية ستتعلم من الأجزاء المظلمة لطبيعتنا البشرية أم من الأجزاء النبيلة». 

السؤال الأساسى الذى ينطلق منه الكتاب هو كيف يعيد الذكاء الاصطناعى تحديد من نحن بينما يطور الروبوت قدرات إدراكية، مثل الفهم والذاكرة والقرار والتفكير المنطقى؟ تحاول الكاتبة توضيح آثار الثورة التقنية على الأفراد والدول والشركات وحال البشرية التى ستتغير بطرق غير متوقعة، محذرة «إذا لم نتدخل عن قصد، فإن الذكاء الاصطناعى لن يطور خوارزمية تقيّم الهموم البشرية. التكنولوجيا ستكتشف من نحن فى النهاية؛ مخلوقات مرنة وغير محصنة، فضولية وإبداعية، زاخرة بإمكانات التواصل الأصلى مع أنفسنا والآخرين».

عصر الذكاء الفائق

فى كتاب آخر بعنوان «نوفاسين: عصر الذكاء الفائق القادم» يجادل الكاتبان جايمس لوفلوك وبراين آبليارد بأن الحقبة التى اكتسب فيها البشر تقنيات على مستوى الكواكب قد وصلت إلى نهايتها بعد ثلاثمائة سنة، وأن عصرًا جديدًا يسمى النوڤاسين قد بدأ لتوّه، وفيه ستظهر كائنات جديدة من أنظمة الذكاء الصناعى قادرة على التفكير بشكل أسرع بعشرة آلاف مرة من البشر، كما أن الكائنات ذات الذكاء الفائق ستكون مُعتمدة على الأرض وسلامتها لتبقى مثلنا تمامًا، تلك الحقبة ستشهد- حسبما يرى الكاتبان- شراكة بيننا وبين الذكاء الاصطناعى.

يشير الكاتبان إلى أن المستقبل سيشهد استقرار السايبورغ بشكل لن يجعل البشر سادة اختراعاتهم، وستكون سيطرتنا على السايبورغز كسيطرة حيواناتنا الأليفة علينا معلنين باستسلام واضح: «لعل خيارنا الأفضل يكمن فى التفكير بهذه الطريقة إن كنت تريد البقاء على قيد الحياة ضمن عالم السايبورغز».

السؤال العربى

لم يكن الباحثون العرب بمعزل عن الاهتمام بالقضايا التى أثيرت حول الذكاء الاصطناعى، وإن كان التناول الفلسفى للقضية بالتركيز على حدود الوجود الإنسانى فى ظل تطور الآلة محدودًا. يتصل الأمر بطبيعة الحضور الخافت للفلسفة والفلاسفة بالمجتمعات العربية من جانب، وبكون التأثيرات السلبية تطول العالم العربى بالتبعية لا بالأصالة فى الحضور والفاعلية. 

فى كتب عدة، انبرى الكتاب والباحثون العرب نحو النظر فى آثار التطور التقنى المحتملة على مختلف القطاعات، فثمة كتابات ركزت على آثار التطور التقنى على قطاع الإعلام، وكتابات أخرى اهتمت بفحص آثار الذكاء الاصطناعى المحتملة والراهنة بمجالات الاتصال والسياسة والعلوم وغير ذلك، غير أن السؤال على المستوى الفلسفى لم يكن حاضرًا إلا بظلال خافتة. 

فى كتاب «الخلود الرقمى: الذكاء الاصطناعى ومستقبل البشر» يثير الكاتب حيدر فالح سلمان أسئلة ملحة عن الذكاء الاصطناعى من قبيل: كيف ستبدو حياتنا مع التقدم والتطور السريع للذكاء الاصطناعى؟ وهل سيحتل الروبوت مكان العامل البشرى فى المصانع، ومن ثم ستزداد معدلات البطالة بازدياد تطبيق هذه التكنولوجيا؟ وهل ستصبح الروبوتات واعية مدركة لتتولى زمام الأمور ومن ثم تسيطر على العالم وتتحكم به؟ 

يثير الكاتب السؤال عن أخلاقيات الذكاء الاصطناعى وما إذا كان يجب على الحكومات التدخل لمراقبة النمو وتنظيمه، كما يحذر من إمكانية تغيير الذكاء الاصطناعى العلاقات البشرية وزيادة التمييز وغزو الخصوصية الشخصية وتشكيل تهديدات أمنية من خلال الأسلحة المستقلة.

يوضح الكاتب أنه فى مجال الوظائف تشير التقديرات إلى أنه سيتم استبدال الذكاء الاصطناعى بالوظائف، وخصوصًا المهام والأعمال الروتينية، ويتطرق إلى تهديد الذكاء الاصطناعى الخصوصية بسبب اعتماده على البيانات الضخمة التى تؤثر على الخصوصية، فضلًا عن إمكانية استخدام التكنولوجيا لجعل الناس يعتقدون أن الأشياء والأخبار غير الحقيقية حقيقية. علاوة على أنه عندما يصبح الذكاء الاصطناعى أكثر قوة وتفوقًا، قد يصبح ذكيًا ومتفوقًا على الأداء البشرى، وهو ما قد يحدث تحولات اقتصادية واجتماعية وسياسية ومخاطر كارثية. 

فى كتاب آخر بعنوان «دهاء شبكات التواصل الاجتماعى وخبايا الذكاء الاصطناعى» أثار الكاتب غسان مراد أسئلة عمّا تفعله التكنولوجيا بالبشر، وإمكانية أن يصير الإنسان موضعًا للشرائح الإلكترونية، وما إن كان الذكاء الاصطناعى سيتغلب على الذكاء الطبيعى فى المستقبل غير البعيد، ليضع جملة من الاحتمالات لما ستؤول إليه البشرية، داعيًا إلى تأسيس قيم جديدة فردية وجماعية تتناسب مع التقنيات الجديدة وتطبيقاتها.

إن التطورات المذهلة بمضمار الذكاء الاصطناعى ربما قد صارت غير بعيدة عن تصورات الخيال العلمى، ولم تعد المخاوف المتخيلة من قبل محض أخيلة فنيّة، لكنها إلى الحقيقة باتت أقرب وأكثر تحريضًا على التفكير والتأمل فى مآلات الإنسان المنتظرة وحدود تحكمه بمستقبله الذى قد يشهد استبعادًا له من قبل الآلة فى أسوأ الظروف، أو شراكة وتماهيًا مع قواعدها فى أكثر السيناريوهات تفاؤلًا.