رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من أحلام السعادة إلى وقائع الإبادة

قطعت البشرية شوطًا طويلًا من أحلامها بالسعادة لتفيق على وقائع الإبادة، وقد سجل أفلاطون ذات يوم حلم البشرية بمدينة فاضلة يحكمها الفلاسفة وتنتفى فيها الجرائم والملكية الخاصة، السعادة فيها حق للجميع من دون تمييز. لكن البشرية بعد ألفين وخمسمائة عام من ذلك الحلم مضت عكس ذلك كله، نحو جرائم أكبر، قاصدة غزة، حيث جرت وتجرى على قدم وساق عملية إبادة جماعية راح فيها مائة ألف إنسان تحت ركام الأمانى المنهارة بعالم سعيد ومدينة «مثالية» للحق والعدالة. ولم يكن للتفاؤل بأحلام أفلاطون ومدينته الفاضلة «يوتوبيا» أن يستمر طويلًا، فظهرت فى مطلع القرن العشرين روايات مضادة «ديستوبيا» عن مدن الواقع المرير القاسية التى تتحكم فيها أقلية لا ترحم أحدًا. 

والشائع بذلك الصدد أن رواية ألدوس هكسلى «عالم جديد شجاع» كانت الأولى من نوعها فى روايات المدن المضادة، لكن ذلك غير دقيق، فقد ظهرت رواية هكسلى عام ١٩٣٠، لكن كانت قد سبقتها إلى الظهور عام ١٩٢٠ رواية الكاتب الروسى يفجينى زامياتين «نحن» التى بلغ فيها النظام الشمولى قسوة أن يكون لكل فرد رقم بدلًا من الاسم، ثم ظهرت رواية «١٩٨٤» تأليف جورج أورويل عام ١٩٤٩. وفى الروايات الثلاث سنجد ذلك الحس العميق بالتشاؤم من تطور البشرية إلى الأفضل. وحين نشر رواية «نحن» لاقت هجومًا رسميًا عنيفًا، وفى حينه رد زامياتين على الهجوم عليه بقوله: «لم يجد النقاد فى الرواية أكثر من هجاء سياسى، بينما الرواية نذيرٌ بالخطر الذى يتهدد الإنسان والإنسانية بسبب السلطة المتزايدة المتضخمة للآلة وللدولة». وكان ذلك الخطر بعد عشر سنوات هو موضوع رواية هكسلى «عالم جديد شجاع» التى صور فيها العالم وقد سقط فى قبضة نظام فاشى شمولى، قسم البشر إلى فئات بواسطة التحكم فى الأجنة والمواليد، فهناك فئة العمال الذين يتم إعدادهم للعمل العضلى، ليكونوا بلا عقل، ثم إلى فئات بشرية أرقى قليلًا للأعمال المتوسطة وصولًا إلى «ألفا» وهى أرقى فئة ذهنيًا، وخلال ذلك نعرف أن البشرية فى ظل ذلك النظام قد تخلت عن الدين والآداب والفنون وكل ما من شأنه أن يثير العاطفة والقلق والتفكير. 

أما جورج أورويل، فإن أحداث روايته تقع فى إحدى مقاطعات بريطانيا العظمى، فى عالم لا تنتهى فيه الحروب تحت نير حكم يدعى أنه «اشتراكية إنجليزية»، يقف على قمته الأخ الأكبر الذى يجسد طغيان الدولة والعالم. وفى النماذج الثلاثة الأشهر من روايات «ديستوبيا» «المدينة البغيضة» نرى بوضوح انهيار الحلم البشرى الأول بعالم مثالى عادل وآمن. وبالرغم من سقوط الحلم بأقوى صورة فى مطلع القرن العشرين، وبرغم الحربين العالميتين، فإن أحدًا لم يكن ليتخيل أن يمضى الانهيار بهذه الخطوات الواسعة من مدينة مثالية إلى مدينة غزة، ومن الحلم بحياة رخية للبشر إلى الإبادة الجماعية التى كان معظم ضحاياها من النساء والأطفال.