رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الفلاح الحصيف.. ومفرخة المماليك

عانى الفلاح المصرى خلال فترة حكم المماليك معاناة كبيرة.. على ذلك تُجمع كتب التاريخ، وهى تتحدث عن تعاسة حال الفلاحين فى ذلك العصر، الذى كان «زارع الأرض» أشبه بالمتاع فى حوزة سيده الأمير المملوكى، وكان يُضرب حتى يقدم آخر قطعة فضة فى جيبه. حكايات الملتزمين وإرهاقهم للفلاحين وإذلالهم لهم، وترخصهم فى الاستيلاء على أموالهم ومواشيهم ودورهم، تتزاحم داخل كتاب الجبرتى «عجائب الآثار فى التراجم والأخبار»، إلا حكاية واحدة قلبت هذه المعادلة رأسًا على عقب، بطلها فلاح يتيم من إحدى قرى المنوفية، تمكن من ركوب المماليك وتسخيرهم لتحقيق مآربه، وبات صاحب قيمة وقامة بالنسبة لكبارهم، كيف لا وقد أصبح المصدر الأهم لإقراض الأمراء، وعلى رأسهم إبراهيم بك كتخدا، إنه «صالح الفلاح».

شاءت الأقدار أن يموت والد «صالح»، ومن بعده أمه، وهو صغير، لينشأ طفلًا يتيمًا فى قرية «الراهب»، إحدى قرى المنوفية، واضطرته ظروف اليُتم إلى العمل خادمًا لدى بعض أولاد شيخ البلد، ولم يكن لليتامى من فرص عمل فى ذلك الوقت سوى الخدمة فى بيوت الموسرين، لكن لأن الحياة لا تستقر على حال فقد تعرض شيخ البلد لضائقة مالية، وانكسر عليه مبلغ كبير من المال كان يتوجب عليه دفعه للملتزم، واسمه «على كتخدا الجلفى»، ولم يكن معه ما يسد به دينه، فاتفق مع الملتزم على أن يرهن لديه ولده ومعه خادمه «صالح»، وكانا طفلين صغيرين، ليظلا عنده حتى يدبر مبلغ الدين ويدفعه له. أقام الطفلان فترة من الوقت فى بيت الملتزم، تمكن خلالها شيخ البلد من تدبير المبلغ المطلوب لسداد دينه، وذهب به إلى «الجلفى» وأعطاه له، ليسترد ولده وخادمه، عاد الابن فرحًا مع أبيه إلى بلدته، لكن «صالحًا» أبى ورفض العودة، وأصر على مواصلة العيش فى بيت الملتزم، حيث أعجبته حال الخدمة فيه، ولم يكن الملتزم يمانع فى ضمه إلى جملة خدامه، ولم تكن لدى شيخ البلد أيضًا غضاضة فى ذلك. 

انضم «صالح» إلى مجموعة الصبيان الذين يعملون فى خدمة الحريم، وكان يمتاز بشخصية تجمع بين الذكاء فى التقاط المصلحة من ناحية، والمرح والانطلاق من ناحية أخرى.. أو كما يقول الجبرتى: «كان نبيهًا خفيف الروح والحركة»، ما يعنى أنه جمع ما بين الحسنيين: البراعة فى التقاط المنافع واستغلال المواقف، ومهارة العلاقات العامة. كان من الطبيعى أن تتكاثر المكاسب فى يد «صالح الفلاح» يومًا بعد يوم، وأن يتحول تدفق الأموال إلى خزائنه إلى شلال، سنة بعد سنة، وكان الرجل شديد الطموح، فبدأ يفكر فى مشروع يؤدى إلى مضاعفة أمواله أكثر وأكثر.. وهداه تفكيره إلى مشروع شديد العجب والعبقرية فى آنٍ واحد، يمنحك نموذجًا على ما كان يتمتع به أحد الفلاحين المصريين من ذكاء وحصافة، فى عصر كان أغلبهم يعانون السحق تحت أقدام المماليك.

اتجه «صالح الفلاح» إلى إنشاء ما يمكن أن نطلق عليه «مفرخة المماليك»، فكان يشترى المماليك والعبيد والجوارى، ويزوجهم من بعضهم البعض داخل مجموعة من البيوت، التى أنشأها وأعدها وهيأها لهم خصيصًا، ونتاج الزواج بالطبع إنجاب، وقد أنجب مجموعة المماليك والجوارى الذين اقتناهم «الفلاح» مماليك جددًا، وتكاثر العدد، ومعه تكاثرت البيوت التى يبنيها «الفلاح» لتفريخ المزيد من المماليك. وأول ما يرد على البال لمن يتصفح هذه القصة أن «صالحًا» كان يبيع المماليك ويربح فيهم، كما جرت العادة فى ذلك الزمان، لكن «الفلاح الحصيف» كان أذكى من ذلك، فقد اتجه إلى زرعهم كأدوات له داخل بيوت أهل الحل والعقد، أو صناع القرار بالتعبير الحديث، ليعملوا على تمرير مصالحه، وتسهيل صفقاته، وبالتالى تعظيم مكاسبه، وكان يعتمد فى زرعهم داخل «بيوت الكبار» على «المصانعات والرشاوى والهدايا»، وتمكن العديد من مماليكه من الصعود داخل المجتمع المصرى، وتولوا العديد من المناصب المهمة، وأصبح منهم الكتخدا والأمير والجاويش، وصار أتباعه منهم أشبه بالشبكة التى تلف المحروسة من شتى نواحيها. وكانت النتيجة أن تضاعفت ثروته بشكل كبير، وطبقت شهرته آفاق البلاد، وأصبح نفوذه لا يخفى على أحد. وقد بلغ الثراء بالرجل حدًا جعله يقرض حكام البلاد، وعلى رأسهم إبراهيم كتخدا وأمراؤه.

جرت الحياة هنية رخية على الفلاح الذى بدأ رحلته طفلًا يتيمًا خادمًا فى بيوت الكبار، وأصبح باجتهاده صاحب واحد من أكبر البيوتات فى مصر المحروسة.. ٧٠ سنة كاملة عاشها «صالح»، حتى لم تبق فى فمه «سن»- كما يحكى الجبرتى- وكان يقال له «صالح جلبى» و«الحاج صالح»، ويصفه «الجبرتى» كنادرة من نوادر الزمان، وقد كان الرجل بالفعل كذلك، ويفسر انتهاء تجربته فى الثراء بالسقوط فى فخ الربا. فقد كان «صالح» يقرض من حوله بالربا، ولم يكن يجد غضاضة فى ذلك، فى سبيل أن تزيد ثروته أكثر وأكثر، فكانت النتيجة أن بارت تجارته، وتضعضعت تجربته، وساءت أحوال أسرته، وزالت النعم التى حباه الله بها. فقضى أيامه الأخيرة فى هم وتعب، بعد أن بدأ منحنى حظه الشهير فى الهبوط، ومنحنى الخسارة فى الصعود، وظلت حاله كذلك حتى أدركه هادم اللذات ومفرق الجماعات عام ١٧٥٤ ميلادية.