رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الفنان أحمد عبدالكريم وفلسفة الطبيعة والمحاكاة

الفنون التشكيلية وخاصة البصرية، من الفنون الإبداعية، المتجذرة في الوعي الإنساني، والتي لها الريادة في تسجيل الرحلة  المعرفية البشرية منذ ميلادها الأول، وسجلته الحضارات القديمة مثل الفرعونية واليونانية والرومانية والهندية والصينية، وهو الفن الذي ازدهر خلال عصر النهضة والتنوير في أوروبا ووصل إلى آفاق جديدة من الإبداع والابتكار لمحتواه الخيالي والجمالي والمعرفي، فدراسة الفن من جميع أنحاء العالم، ومن القديم إلى يومنا هذا- هي الطريقة التي مكنتنا من فهم واستيعاب كل جانب من جوانب التاريخ والخبرة البشرية، ليس ذلك فحسب، بل وفي تتبع تاريخ الأفكار الإنسانية وتطورها، ولذلك ينظر إلى الأعمال الفنية على أنها وسيلة لفهم العالم والمجتمعات التي ظهرت فيها، فربما يأخذك تأمل لوحة تشكيلية إلى مناقشة الخلفية الثقافية والفلسفية وربما الصراعات السياسية والنفسية وتأثير ذلك على حركة الخطوط والألوان، وهي من هذا المنطلق تتأثر وتؤثر في حقبتها الزمنية وتعبرعنها بل وتحمل عبء رصدها والحفاظ عليها لأجيال قادمة.

إحدى لوحات أحمد عبد الكريم

وتطرح معارض الفنان التشكيلي والأكاديمي د. أحمد عبدالكريم (1954) الحاصل على جائزة الدولة للتفوق 2022، العديد من الإشكاليات والقضايا الفلسفية والجمالية ففيها التاريخ والأنثروبولوجيا والمخزون البصري الفني الهائل للحياة الفطرية، قبل أن تغتالها المدنية الحديثة وتلقي عليها بظلال المادة والجمود، وللحضارة المصرية الفرعونية والحضارة الإسلامية وتاريخ العلامات والرموز الضاربة في وعيه الشخصي والجمعي كما أشار جوستاف كارل يونج (1875-1961) مؤسس علم النفس التحليلي، والذي ظهر للوجود في سيل من الخطوط والألوان والتيمات، هذه التوليفة التي يتذوقها المتخصص في الفنون التشكيلية والهواة وأصحاب الفطرة الجمالية، فنحن نقف على ناصية الفنون التي تستدعي المخزون المعرفي والجمالي والخبرات القرائية والحياتية وتستنهض المخبوء في زوايا الذاكرة، وتخضع اللوحة الواحدة  في معارضه للعديد من التأويلات والقراءات.

 والتأويل هو تلك النزعة الطبيعية للفهم المؤسس على حقائق واقعية، أما القراءات فهي تخضع للعديد من المؤثرات المرتبطة بالخلفية الثقافية والتعليمية للقارئ وخبراته اللونية والتعبيرية والإجتماعية والسياسية وربما سماته الشخصية والتأملية، لذا تختلف القراءات باختلاف البشر ودرجات الوعي، ويقف النقاد كثيرا عند عناوين معارض الفنان أحمد عبد الكريم فمنها على سبيل المثال: شجرة الجميز، قلب الهدهد، ترابها زعفران، مراكب الإشراق، الأرض، يا طالع الشجرة، التي يشير جميعها إلى إيمانه وثقته في إرثه التاريخي الفرعوني والإسلامي والنزعة الصوفية العلوية التي تتواصل فيها الأضداد لخلق وحدة واحدة منسجمة ومتوازنة ومطلقة، لا يعوق سريانها عنف أو صراع أو تعارض أو تخل، فهي التجلي الأكبر في أرقى مستوياته، والتي تظهر كما يعتقد أنصار الحركة الرومانسية في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر في لحظات العزلة والسكون والسلام والتوحد والطمأنينة.  

وينتمي الفنان أحمد عبد الكريم إلى الطبيعة والأرض، وهي في الحقيقة نزعة فطرية ربما تصل بالمنتمي إلى التوحيد الذي وصل إليه قدماء المصريين في علاقتهم الحميمة وتأملهم للعلاقات التي تربط بين الإنسان وجميع المخلوقات، وهو الانتماء الذي أشار إليه أرسطو في القرن الرابع والخامس قبل الميلاد في نظريته عن الفن وعلاقته بالطبيعة والتي أعتبر فيها كل الفنون "محاكاة" لها، وهي النظرة التي تسد الفجوة القائمة بين الحسي والروحي، والمحاكاة التي قصدها أرسطو ليست نقلا سلبيًا للعوالم المرئية الخارجية بل هي مرحلة عليا من مراحل الاختزال والتشكيل والتكوين والتكثيف العاطفي الذي يظهر مواطن الجمال وبواطنه، وأشار أرسطو أيضًا إلى محبة البشر لعملية المحاكاة لأنها توضح هذه العلاقة المعقدة بين ما يلاحظ بالحواس وما يدرك بالعقل والمنطق، فالفن يحاكي الطبيعة ويستكمل أوجه القصور التي تعيق إبراز جمالها وجلالها، والفن بهذا المعنى هو تجلي "الحقيقة" حسب الفيلسوف الألماني هيدجر والحقيقة نفسها هي مظهر من مظاهر الوجود، والأعمال الفنية هي الأشياء الوحيدة القادرة على إظهارها وربما اقترب الفنان في لحظته النورانية من الجوهر، فالفنان يتحدث إليها ويقيم علاقات جدلية معها لإخراج مركب إبداعي جديد للوجود ومن وحيها، وهي ملهمة الفنان الأولى التي تفتح له مستودعات أسرارها على مصراعيها.

أحمد عبد الكريم

 وأعمال الفنان أحمد عبدالكريم تحمل هذه الأرسطية، ولا نغفل في ذلك تأثير نشأته الأولى في الحارة الشعبية المصرية، حي السيدة زينب، وزخمها الثقافي وعماراتها وحكمتها مع مشاهداته في الريف المصري ومرسمه الذي اختار أن يكون وسط الطبيعة الحرة في منطقة دهشور، وتأثير ذلك على أعماله الفنية، فالخبرات الجمالية اختمرت في دواخله وظهرت في سيل من اللوحات التشكيلية التي تنطق بما عاشه وفهمه وأدركه، فهولا يفتعل عوالم لم يعشها ويختبرها، ولذلك فلقد حظي بمصداقية متابعيه، فهو يعتقد أن الفن بناء إنساني ولا ينبغي أن ينظر إليه على أنه تكرار للطبيعة، فهو يقدم محاكاة للمثل الأعلى، الذي يمكن العثور عليه في علوم الجمال وفي البحث عن الحقيقة والأنساق الأخلاقية، وهو في ذلك رفيق المبدعين في جميع الأجناس الإبداعية الأدائية الشفهية والمكتوبة من شعراء وروائيين ومسرحيين، الذين تعرضوا لنفس الظروف البيئية، ومنهم شكسبير الذي عاش في منطقة ستراتفورد أبون أفون وهي مدينة جميلة قديمة وكان الجمال فيها معلمه الأول والوحيد وهو الذي لم يلتحق بأي تعليم نظامي، و"شعراء البحيرة" في إنجلترا الذين عاشوا حول البحيرة وتأثروا بالحياة الطبيعية الساحرة على جوانبها وشكلوا الحركة الرومانسية التي تعد التحول الحقيقي في الفكر الإنساني وحركة الفنون، ويحضرني أيضًا الروائي هنري ديفيد ثورو (1816-1862) في روايته (والدن) 1854، الذي عاش في  الغابات لمدة سنتين وأثر ذلك على حياته الإنسانية وإنتاجه الإبداعي وكتب يقول: " ذهبت إلى الغابات بكل وعي وبكل حرية، لمواجهة الحقائق الأساسية للحياة لعلي أتعلم ما للحياة أن تعلم، وحتى لا اكتشف عند الموت أني لم أعش قط".

وفي هذا الإطار يمكنك أن ترصد تطور برنامج الفنان أحمد عبد الكريم الإبداعي من خلال سلسلة معارضه السنوية والمستمرة منذ التسعينيات، والتي تشير إلى فنان من نوع فريد، كرس حياته للخطوط والألوان وللمعارف، فلا تكاد تخلو لوحة من فلسفة وبيان معرفي وعلاقات متشابكة تجمع التاريخ الماضوي باللحظة الحاضرة والمستقبلية، فبدا للمنشغل بالفهم والتأويل، كأنه حارس التراث الإنساني في عمومه والمصري في خصوصيته الثقافية والتشكيلية، وأصبح بهذه الجدية في تناول لوحاته جزءا من هذا التراث، فهو المصري القديم المعتز حد الاغترار بحضارته المجيدة الممتدة في عمق التاريخ وعمقه الجيني، وهوالصوفي المنغمس في مواكب الإشراق ومراكبه،  وهو المتناغم مع الهدهد والمتفاعل معه وما يرمز إليه فهو رمز البصيرة النافذة وطائر الأسرار العجيب ورسول الأنبياء وحمّال المهام الصعبة ومعلم البشرية كما ورد في النص المقدس، وهو المؤمن بالشجرة والمعتقد في سموقها وجمالها وصبرها، وهو ابن الأرض بأسرارها ونورها ونارها وقصة إنسانها الأول، ولست من المدارس التي تعلن موت الفنان أو تجاهله داخل منتجه الإبداعي لوحة كانت أو قصيدة أو غيرها من أشكال الفنون.

إحدى لوحات أحمد عبد الكريم

 فسيرة الفنان وتاريخه وما تعرض له من تحديات وخبرات خلال مسيرته الحياتية والمعرفية وتجواله ومشاهداته وعزلته وانغماسه وربما أحلامه وكوابيسه وعلاقاته الإنسانية ولحظاته الخاصة بين الخفوت والإشراق والعشق جميعها ترصدها عين الباحث الأكاديمي والمثقف وربما الإنسان العادي في معارضه، فهو لا يرسم أحوالهم فقط ولكنه يثير في دواخلهم الجمال، والدهشة والسؤال الذي يقود إلى حراك فلسفي متعدد الأقطاب وإلى إجابات تثير المزيد من الأسئلة، أن الفن بهذا المعنى لديه القدرة على مساعدة البشر على الوصول إلى مستويات أعلى من الفهم والبصيرة، مما يسمح لهم بعيش حياة أكمل وأكثر معنى، وهذا يبرر اهتمام الدول الغربية بالمؤسسات الفنية وبالفنون التشكيلية في بناء الإنسان والحفاظ على توازنه،فهي وفقًا لأرسطو وهيدجر، أداة لمساعدتنا على أن نصبح أفضل نسخة من أنفسنا.

الدكتورة سلوى جودة
  • أكاديمية بجامعة عين شمس