رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رجل المسرح.. حكايات عبدالمنعم مدبولي ناظر مدرسة الكوميديا

عبدالمنعم مدبولي
عبدالمنعم مدبولي

لو أن هناك مدرسة للكوميديا سيكون على رأسها عبدالمنعم مدبولى ناظرًا للضحك والفكاهة، ليس فقط لمواهبه المتعددة وقدراته غير المحدودة على تجسيد فنون الكوميديا على مدى ما يقرب من سبعين عامًا، بل لأنه أيضًا مارس كل أساليب وأشكال فنون الضحك، بدءًا من ميكروفون الإذاعة وعلى خشبة المسرح، وعلى الشاشتين الذهبية والفضية، فى هذه المدرسة سيفتح مدبولى فصولًا للكوميديا الإذاعية معتمدًا على خبراته الكبيرة التى اكتسبها من برنامج «ساعة لقلبك» أشهر برامج الكوميديا فى خمسينيات القرن الماضى، وسيكون فى المدرسة قسم خاص بالكوميديا على خشبة المسرح، والمسرح الحر، ومسرح الدولة، والقطاع الخاص ومسرح التليفزيون، فقد شارك أيضًا وأسهم فى كل هذه الأنواع ممثلًا ومخرجًا وكاتبًا ومنتجًا بدءًا من مساهمته فى تأسيس فرقة المسرح الحر، ثم فرقة المتحدين والمدبوليزم، وبالطبع سيكون للكوميديا على شاشة السينما أيضًا قسم خاص، سيضع فيه كل خبراته التى اكتسبها عبر مشاركته فى عشرات الأفلام فى أدوار وشخصيات متنوعة مع نجوم من عدة أجيال.. ودون شك ستكون للدراما التليفزيونية مكانة خاصة فى هذه المدرسة وفقًا لتاريخ هذا الفنان غير المسبوق والمتميز على الشاشة الصغيرة.

البداية من ساعة لقلبك 

سيقف الناظر من شرفة مكتبه مزهوًا بتاريخه، وليشاهد طابورًا طويلًا من أهل الفن يتقدمهم جورج أبيض وفاطمة رشدى ونجيب الريحانى وزكى طليمات، وإلى جواره يقف صديقه ورفيق الرحلة فؤاد المهندس، وخلفه تلاميذ موهوبون، منهم عادل إمام ويونس شلبى وسعيد صالح ومحمد صبحى، المدرسة مزدحمة بمختلف أنواع الكوميديا، بدءًا من أسلوب الفارس وصولًا إلى كوميديا الموقف والانتقاد الاجتماعى، مرورًا بالكوميديا الشعبية التى استفاد مدبولى منها فى كل مراحله الفنية، حيث نجح فى خلق مزيج من الفارس والكوميديا الشعبية، مع ذكاء فطرى منحته السماء لهذا الفنان وعمر مديد ٨٥ عامًا حتى يقدم ما لديه من مواهب لا حصر لها. 

عبدالمنعم مدبولى إبراهيم مواليد «٢٨ ديسمبر ١٩٢١ - ٩ يوليو ٢٠٠٦» حين أتذكر أعماله لا أتخيل أنه شخصية واحدة، بل مجموعة من الشخصيات منذ مشاركته فى برامج الأطفال فى الإذاعة المصرية مع «بابا شارو» الراحل الكبير محمد محمود شعبان، ثم انضمامه إلى فرقة جورج أبيض، وبعدها فرقة فاطمة رشدى ١٩٤٤، وحين أسس زكى طليمات فرقة المسرح الحديث ١٩٥٠ كان مدبولى أحد أعضائها، وأسهم فى تأسيس فرقة المسرح الحر عام ١٩٥٢ بعد تخرجه فى معهد التمثيل مع مجموعة من زملائه، منهم حسين جمعة وسعد أردش وصلاح منصور، وكان من أبرز أعضائها ممثلًا ومخرجًا، وقدم كمخرج لفرقة المسرح الحر مجموعة من العروض منها «خايف أتجوز - الرضا السامى، مراتى نمرة ١١، الأرض»، وكانت مواهب ناظر مدرسة الكوميديا قد بدأت فى مرحلة المدرسة، حيث نال دبلوم الفنون التطبيقية قسم النحت، بل عين مدرسًا بالقسم بعد تخرجه، وذلك قبل أن يلتحق بمعهد التمثيل ويتخرج فيه ١٩٤٩، وكان من الدفعة الثانية لمعهد التمثيل الذى صار فيما بعد المعهد العالى للفنون المسرحية. ورغم مساهمة مدبولى فى المسرح المصرى منذ أن أُسند له دور شخصية أعرابى فى أربعينيات القرن الماضى مع فرقة المسرح الحديث، وصولًا إلى مشاركته فى مسرحية «الجنزير» تأليف محمد سلماوى، ومرورًا بعشرات الأدوار ممثلًا ومخرجًا- فإن نجوميته بدأت فى الإذاعة المصرية من خلال البرنامج الكوميدى الاجتماعى ذائع الصيت «ساعة لقلبك»، وقدم من خلاله شخصيات عديدة وشارك فى الكتابة أيضًا.

رجل المسرح 

لا يمكن قراءة حياة عبدالمنعم مدبولى وجيله الذين بدأوا مشوارهم الفنى فى خمسينيات القرن الماضى مع الحراك الثورى، ومنهم أيضًا فؤاد المهندس وأمين الهنيدى- إلا فى سياق تطورات المجتمع المصرى منذ أربعينيات القرن الماضى، ومرورًا بثورة يوليو ١٩٥٢، ووصولًا إلى الستينيات أو مرحلة الازدهار الفنى تحت مظلة الدولة الوطنية التى تحررت من الاستعمار، حيث حاول هؤلاء تجسيد الفئات الاجتماعية التى تنامى صعودها فى الطبقة الوسطى فى ظل التحولات الاجتماعية والسياسية بعد يوليو ٥٢، ولذلك كان من الطبيعى أن يلمع نجم مدبولى مع نجوم ساعة لقلبك، حيث لم يتخل عن الإذاعة طيلة مشواره الفنى، فقد كان يدرك جيدًا أهمية هذا المنبر، وأيضًا إمكاناته هو الصوتية والأدائية التى منحته تميزًا خاصًا أمام الميكروفون. وكما أدرك أهمية الإذاعة أدرك جيدًا طبيعة المسرح صاحب الكلمة العليا فى ذلك الوقت، فكان يعى جيدًا أهمية الدراسة، فالتحق بمعهد التمثيل، وكان قد بدأ من قبل فى الاشتباك مع المسرح من خلال بعض الأدوار الثانوية وتنقل بين بعض الفرق التى تنوعت اتجاهاتها ما بين الكوميدى والتراجيدى وصولًا إلى مساهمته فى تأسيس فرقة المسرح الحر ذات الاتجاه الاجتماعى، والذى استعاره هؤلاء من الفرنسى أندريه أنطوان الذى سعى إلى تقديم مسرحيات واقعية وطبيعية تتحرر من الأعراف والتقاليد السائدة، وانضمامه إلى فرقة مسرح ساعة لقلبك ١٩٥٩، ثم خوض تجربة مسرح التليفزيون مع الفنان السيد بدير، وصولًا إلى مساهمته فى تأسيس فرقة «الفنانين المتحدين» عام ١٩٧٣، ليكون استقلاله فى عام ١٩٧٥ وتكوين فرقته الخاصة «المدبوليزم»، وهذه اللمحة السريعة حول مشاركة مدبولى فى الفرق المسرحية الخاصة والحكومية لا تخلو من دلالة، وتدل على رؤيته للمسرح، رؤية تؤكد وعيه بتضافر وتشابك عناصر العملية المسرحية، فقد مارس مدبولى الإنتاج والإخراج والتمثيل والكتابة، بالإضافة إلى وعيه بضرورة التنوع وممارسة أساليب مختلفة وفقًا لمقتضيات المرحلة. ومن خلال المساهمات سالفة الذكر تبدو شخصية مدبولى المولع بفن المسرح ليس فقط من خلال ممارسة أربعة عناصر من مفردات العرض المسرحى «الإنتاج، الكتابة، الإخراج، التمثيل»، بل من خلال البحث الدائم عن أفكار وأشكال جديدة فى كل مرحلة.. وهذه الفرق التى انضم إليها أو أسهم فى تأسيسها مارس فيها التمثيل والإخراج وترك بصمة وأثرًا ملموسًا، ففى فرقة المسرح الكوميدى أشهر فرق التليفزيون أعوام ١٩٦٢-١٩٦٦ أخرج لهذه الفرقة مجموعة من المسرحيات بعضها أصبح جزءًا لا يتجزأ من ريبرتوار المسرح المصرى منها «جلفدان هانم- أصل وصورة- السكرتير الفنى- أنا وهو وهى- مطرب العواطف- حلمك يا شيخ علام، وغيرها»، وأخرج لفرقة «المتحدين» خلال عامين «البيجامة الحمرا - هاللو شلبى»، فقد كان رجل المسرح بالمعنى العلمى للكلمة، حيث مارس فنون العرض المسرحى وعرفها جيدًا. 

الممثل القادم من الكوميديا الشعبية 

مارس مدبولى التمثيل فى المسرح والسينما والتليفزيون والإذاعة، ودون شك حين يخوض تجربة التمثيل ممثل يدعمه المخرج والكاتب والمنتج كما هو الحال مع هذا الفنان سيختلف الأمر كثيرًا، حيث صنع لنفسه أسلوبًا استفاد من خبراته السابقة، وأيضًا من ولعه بالكوميديا الشعبية وأسلوب الفارس، بالإضافة إلى صيغة الفودفيل، حيث اعتمد أداء مدبولى ليس فقط على الأداء التعبيرى، بل كان للجسد دور مهم كما كان يحدث مع ممثلى الكوميديا الشعبية من قبل، وهو ما تشارك فيه مع رفيق رحلته الفنية فؤاد المهندس. وتقريبًا قدم مدبولى، مخرجًا وممثلًا، ما يقرب من ٦٠ فيلمًا، و١٢٠ مسرحية، و٣٠ مسلسلًا، بالإضافة إلى الدراما الإذاعية والبرامج الكوميدية، وفيها كانت شخصيته كممثل يمتلك ليس فقط قدرات أدائية خاصة، بل وأيضًا يمتلك وعيًا بالعملية المسرحية... وتنوعت هذه الأدوار ما بين الكوميدى والتراجيدى، كما تنوعت أعماله التى قدمها كمخرج مسرحى، ففى مسرحية السكرتير الفنى قدم دور الناظر وصاحب المدرسة وكيف مر الدور بمراحل عديدة وفقًا لتحولات البطل «فؤاد المهندس»، شخصية الناظر الانتهازى المستغل فى شخصية تجمع بين المضحك والمأساوى، وشخصيات أخرى متنوعة، منها دور الصحفى فى الداهية المراوغ فى مسرحية «أصل وصورة»، ودور عطية فى «لوكاندة الأنس»، وأيضًا شخصية تحسين المالح فى «نمرة ٢ يكسب»، بالإضافة إلى ما قدمه لفرقته المدبوليزم من عروض مسرحية قام فيها إلى جانب الإخراج بدور البطولة مثل «راجل مفيش منه، حمار ماشلش حاجة، مولود فى الوقت الضائع»، وبالطبع وضع فى دور حسب الله مع شادية وسهير البابلى كل مهاراته فى التمثيل من خلال مسرحية «ريا وسكينة» من إخراج حسين كمال، فمن يتأمل هذا الدور وما قدمه مدبولى، مطربًا وممثلًا، سواء من خلال الأداء الحركى أو الأداء التمثيلى والغناء، يشعر بأنه يقدم صورة شخصية لتاريخه المسرحى. 

السينما والتليفزيون 

هناك أجيال عديدة لم تشاهد مدبولى على خشبة المسرح ولكن تعرفه من خلال السينما والدراما التليفزيونية والمسرحيات التى تم تسجيلها وإعادة عرضها فيما بعد، وربما لا يعرف هؤلاء أن هذا الأداء الخاص الذى يقدمه هذا الفنان على الشاشتين الصغيرة والكبيرة يعتمد على خبراته المسرحية النادرة والثرية، ويكفى أن يتذكر المشاهد أدواره فى أفلام مثل «الحفيد- إحنا بتوع الأتوبيس- مولد يا دنيا»، الأول عام ١٩٧٥ تأليف عبدالحميد جودة السحار وإخراج عاطف سالم، ويناقش قضية اجتماعية، يؤدى فيه مدبولى دور رب الأسرة حسين، ويقدم صورة حية للأب المصرى، وفى نفس العام قدم شخصية «ريشة» فى فيلم «مولد يا دنيا» الذى أبدع من خلاله فى أغنية «طيب يا صبر طيب» من إخراج حسين كمال، ولنفس المخرج قدم عام ١٩٧٩ «إحنا بتوع الأتوبيس» عن قصة جلال الحمامصى «خلف الأسوار»، والذى يناقش قضايا التعذيب فى الستينيات، من بطولة عادل إمام فى دور جابر ومدبولى جاره مرزوق، بالإضافة إلى أعماله فى الدراما التليفزيونية، وأهمها «أبنائى الأعزاء شكرًا» من خلال شخصية بابا عبده التى أصبحت جزءًا من وجدان المشاهد المصرى، هذا الفنان الذى تمر اليوم الخميس ٢٨ ديسمبر ذكرى مولده، ويحتاج أداؤه التمثيلى إلى حديث خاص.