رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يا متخلف!

يجمع العديد من الكتابات التى أرَّخت لسيرة الملك الصالح نجم الدين أيوب، زوج «شجرة الدر»، على ما تمتع به من شخصية مهيبة رزينة مرتكزة، وما اتسم به شخصه من تعفف فى اللفظ إلى حد أن تجد «ابن تغرى بردى» يذكر فى كتابه «النجوم الزاهرة» أن أقصى ما كان يشتم به أى شخص هو أن يقول له: يا متخلف، وتعجب أن هذا الوصف كان شائعًا فى ذلك الزمان، وكأن أهله كانوا يدركون معنى التقدم أو التحضر، والمعنى النقيض له المتمثل فى «التخلف». وفى مجالس السماع اتسم نجم الدين أيوب بالرزانة، فكان لا يهتز طربًا مهما كان إبداع من يغنى، وكان كل من حوله يلزمون أنفسهم بما يلتزم به السلطان، فينصتون وكأن على رءوسهم الطير.

بالمشاركة مع كاتبه الشهير بهاء الدين زهير وقع نجم الدين أيوب فى حرج بالغ مع ابن عمه الناصر داود، حاكم الكرك، بسبب ما يمكن وصفه بالإهمال الإدارى. و«البهاء زهير» واحد من أشهر شعراء العصر الأيوبى، إن لم يكن أشهرهم على الإطلاق، ومن طول صحبته للملك الصالح كان يعلم أن العلاقة بينه وبين ابن عمه الناصر داود ليست على ما يرام، وكان حريًا به ألا يهمل فى الواقعة التى نحكيها، مع ما يعلمه من طبيعة شخصية نجم الدين أيوب من ناحية، وتوتر العلاقة بينه وبين الناصر من ناحية أخرى. على الأقل ذلك ما كان يتوقعه منه الملك.

تبدأ تفاصيل الواقعة حين صدر تكليف من «نجم الدين أيوب» لكاتبه «البهاء زهير» بتسطير رسالة إلى ابن عمه الناصر داود صاحب الكرك، وكانت العادة قد جرت بعد أن ينتهى «البهاء زهير» من كتابة الرسالة أن يسلمها إلى «نجم الدين» لإجراء التعديلات التى يراها عليها، وذلك ما حدث بالضبط، فقد كتب الرسالة، ووصلت إلى الملك الصالح، وكتب بين سطورها ملاحظة يقول فيها مخاطبًا كاتبها البهاء زهير: «أنت تعرف قلة عقل ابن عمى، وأنه يحب من يعظمه ويعطيه من يده، فاكتب له غير هذا الكتاب ما يعجبه»، ووصلت الرسالة بالملحوظة للبهاء ليعدلها. لحظتها كان الرجل مشغولًا بعمل آخر، فأعطى الرسالة لكاتب الكتاب فخر الدين بن إبراهيم، وأمره بختمها. وكان كل ما فهمه «البهاء زهير» أن الملك أسر لابن عمه بكلمات لا يصح لأحد الاطلاع عليها، وأن الأمر لا يتعلق بملاحظة بتعديل الرسالة. ختم فخر الدين الرسالة، وسلمها للبريد، ولم يكذب صاحب البريد خبرًا، فحمل الرسالة المختومة، وطار بها على فرسه إلى «الكرك».

استبطأ الملك الصالح عودة الكتاب إليه بعد تعديله، فاستدعى البهاء زهير وسأله عن الأمر؟ فأجاب الأخير بأن الكتاب خُتم، وطار مع راكبى النجائب. سأله الملك: ألم تقرأ ما كتبته بين السطور؟ فأجاب: ومن يجسر على أن يقرأ ما يسر به الملك إلى ابن عمه؟. قامت قيامة نجم الدين أيوب، وانقلب قصر الحكم رأسًا على عقب، وعدا الفرسان على خيولهم فى محاولة للحاق بالنجّاب «راكبى الخيول السريعة التى تحمل البريد»، وفتشوا عنهم فى كل اتجاه، دون أن يعثروا لهم على أثر.

وقعت الواقعة ووصل البريد بالكتاب إلى الملك الناصر داود فى الكرك. فض الأخير الرسالة وقرأ ما كتبه الملك الصالح عنه، وهو يصفه بـ«خفة العقل»، وربما يكون قد استدعى السباب الشهير الذى ما فتىء «نجم الدين أيوب» فى وصف من يستخف عقله، وقوله له: يا متخلف، وقد يكون خطر بباله أن ابن عمه كاد أن يصفه بذلك. أرسل الناصر داود ردًا بليغًا على «نجم الدين» عبر فيه عن ألمه، ليس من وصفه لابن عمه بخفة العقل، ولكن من أن يطلع على هذا الوصف كتاب رسائله، الذين طلب منهم إعادة كتابة الرسالة، مع استخدام لغة أكثر تعظيمًا وتفخيمًا وتبجيلًا فى مخاطبته، لأنه خفيف العقل. وعندما وصل الرد إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب غضب غضبًا شديدًا. وهو الرجل الذى يصفه «ابن تغرى بردى» نقلًا عن كتاب «مرآة الزمان»: «وكان الملك الصالح كثير التخيل والغضب والمؤاخذة على الذنب الصغير والمعاقبة على الوهم، لا يقيل عثرة ولا يقبل معذرة، ولا يرعى سالف خدمة، والسيئة عنده لا تغفر، والتوسل إليه لا يقبل، والشفائع إليه لا تؤثر».

تحمل البهاء زهير المسئولية بشجاعة، ورغم أن الخطأ كان مرده فخر الدين بن إبراهيم كاتب الكتاب، وأعلن مسئوليته الكاملة عن الخطأ الإدارى الذى حدث، رغم أنه يعلم جبروت نجم الدين أيوب، وأنه لا يغفر خطأ لأحد، وكانت تلك مروءة كبيرة منه، لا تجد لدى معاصريه أو سابقيه أو لاحقيه من المسئولين نظيرًا لها. كان ذلك قمة التحضر من الشاعر الكبير الذى عمل فى معية الملك الصالح نجم الدين أيوب، الرجل الذى يميز بين الناس طبقًا لمعيار التحضر والتخلف، لكن ذلك لم يشفع للبهاء زهير، فقرر الملك استبعاده من العمل، وأبعده عن القصر، وتغير عليه تغيرًا كبيرًا، وربما يكون قد وصفه هو الآخر بـ«المتخلف»، ولم يراع حرمة العلاقة الطويلة التى ربطت بينهما حتى قبل أن يعتلى نجم الدين أيوب سرير الملك فى مصر، ولا الخدمات الكبيرة التى أداها له، والأخطر أنه لم يفهم أن الاستسلام للغضب، والحكم بالقطعة على الأشخاص، وغياب الحكمة فى تقدير إمكانية وقوع خطأ إدارى فى أى عمل، وأن المهم ألا يتكرر، هو أيضًا شكل من أشكال التخلف.