رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الكاتب أمام القاضى

حلّت منذ أسبوع الذكرى الخمسون لرحيل المفكر والكاتب والإنسان العظيم طه حسين، الذى فارقنا فى ٢٨ أكتوبر ١٩٧٣، إلا أن محرقة غزة اختطفت أبصارنا وقلوبنا، فلم أكتب فى ذكراه. ولا أود هنا أن أستعرض قدر وتأثير المفكر العظيم، فقط أود أن أقول إن وجود طه حسين أجرى الحياة فى ضمائر الكثيرين من حوله، من أولئك كان المستشار محمد نور، الذى شغل فى مارس ١٩٢٧ منصب رئيس نيابة مصر، وسجل قرار النيابة فى قضية كتاب «فى الشعر الجاهلى» لطه حسين، ثم قرر حفظ الأوراق إداريًا، أى تبرئة طه حسين من التهم الموجهة إليه. 

حينذاك كان النائب العمومى قد تلقى عدة بلاغات تفيد كلها بأن طه حسين تعدى بكتابه على الدين الإسلامى، أولها بتاريخ ٣٠ مايو ١٩٢٦ من الشيخ خليل حسين، الطالب بالقسم العالى بالأزهر، يتهم فيه الدكتور طه حسين بأنه ألّف كتابًا أسماه «فى الشعر الجاهلى» ونشره على الجمهور، وفى الكتاب طعن صريح فى القرآن العظيم، حيث نسب الخرافة والكذب لهذا الكتاب السماوى، إلى آخر ما ذكره فى بلاغه، وبتاريخ ٥ يونيو ١٩٢٦ أرسل فضيلة شيخ الجامع الأزهر للنائب العمومى خطابًا تضمن تقريرًا رفعه علماء الجامع الأزهر عن كتاب طه حسين، الذى على حد قولهم كذَّب القرآن صراحة، وطالب فضيلة الشيخ بتقديم طه حسين للمحاكمة. 

وفى ١٤ سبتمبر سنة ١٩٢٦ تقدم حضرة عبدالحميد البنان أفندى، عضو مجلس النواب، ببلاغ آخر ذكر فيه أن الأستاذ طه حسين نشر ووزع وعرض للبيع كتابًا طعن وتعدى فيه على الدين الإسلامى، وأجمل محمد بك نور الاتهامات الموجهة ضد طه حسين فى أربعة: الأول أنه أهان الدين الإسلامى بتكذيب القرآن فى إخباره عن إبراهيم وإسماعيل، والثانى أنه طعن على النبى، صلى الله عليه وسلم، من حيث نسبه، والثالث ما تعرض له المؤلف فى شأن القراءات السبع المجمع عليها، والرابع أنه أنكر أن للإسلام أولوية فى بلاد العرب وأنه دين إبراهيم. وقد حقق محمد بك نور طويلًا مع طه حسين، وجادله، ثم قرر حفظ القضية، أى أنه قرر تبرئة طه حسين. وتتضح أهمية وعظمة موقف محمد بك نور فى أنه قرر حفظ القضية، ليس لأنه متفق مع ما جاء فى كتاب طه حسين، بل رغم اختلافه مع ما جاء فى الكتاب! وفى ذلك تحديدًا تكمن عظمة ذلك العقل المستنير. وما زالت كل حجج محمد بك نور- التى برأت طه حسين- صالحة كأساس منهجى إلى يومنا هذا، ومثال ذلك أنه يشير فى أحد المواضع إلى أنه «لا يجوز انتزاع تلك العبارات من موضعها والنظر إليها منفصلة، وإنما الواجب توصلًا إلى تقديرها تقديرًا صحيحًا بحثها حيث هى فى موضعها من الكتاب ومناقشتها فى السياق الذى وردت فيه»، أما عن التهمة الخاصة بالقراءات السبع، فقد اعتبر محمد بك نور أن ما ذكره المؤلف هو «بحث علمى لا تعارض بينه وبين الدين ولا اعتراض لنا عليه». 

إن قرار محمد بك نور الذى سجله منذ نحو مئة عام يمثل وثيقة قضائية تحتوى على كل الأسس الضرورية لاحترام الرأى الآخر، والطريقة الصحيحة للتعامل مع الفكر والفن والبحث. فى ٨ مايو ٢٠٠٥ وقع بصرى فى جريدة «الأهرام» على نعى نجل المستشار محمد بك نور، الذى برّأ طه حسين، وقفزت إلى ذهنى حكاية القاضى والكاتب، حين يقف القاضى إلى جوار المتهم، حين يكون المتهم طه حسين وحرية الفكر.