رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

معرض الكتاب.. تحديات وصعوبات و«سماجة» ليس وقتها

أسابيع قليلة وتبدأ الدورة الجديدة من معرض القاهرة الدولى للكتاب، الحدث الثقافى الأكبر فى مصر والعالم العربى، الذى ننتظره نحن محبو القراءة والكتب بشغف لا تؤثر فيه المسافة، ولا أسعار الورق، ولا تكاليف الطباعة، ولا تقف أمامه تقلبات الطقس، ولا أى شىء آخر.. هو أشبه بموعد غرامى بين الكاتب وقرائه، وبين نجوم الفن والسياسة والمجتمع وجمهور ندواتهم.. وبين الناشرين وبعضهم البعض، وإن اختلفت طبيعة العلاقات بين الناشرين وبعضهم البعض، وغلبة حسابات المكسب والخسارة عليها.. ورغم أن المعرض يقام هذا العام وسط ظروف إقليمية سياسية واقتصادية شديدة الصعوبة، كادت تؤدى به إلى التأجيل أو الإلغاء، لكن الجهة المنظمة اختارت إقامته فى موعده ومكانه، كما اختارت لهذه الدورة شعارًا أراه تعبيرًا دقيقًا عن التحديات التى يواجهها المعرض هذا العام، والرغبة العميقة للقائمين عليه فى التأثير فى محيطنا الثقافى والمعرفى، إذ تقام هذه الدورة تحت شعار «نصنع المعرفة.. نصون الكلمة»، وهو ما يتسق تمامًا مع اختيار عالم المصريات الأشهر سليم حسن كشخصية للمعرض الذى يبدأ فى استقبال زواره فى الخامس والعشرين من يناير المقبل.

ولعله من المناسب أن أذكِّر بما أشرت إليه هنا بخصوص موجة التعليقات السمجة التى تبدأ فى مثل هذه الفترة من كل عام، وتنتشر فى الأفق الافتراضى، وعلى كل صفحات ومواقع التواصل الاجتماعى، ويفترض كاتبها فى نفسه حس الدعابة، أو خفة الدم، على أنها فى تصورى دعابة سمجة، لا تستحق الرد عليها بغير عبارة الفنان عمرو عبدالجليل فى فيلم «سوق الجمعة»: «أبو تقل دمك»، هى ليست بالنص كما جاءت بالفيلم، لكن دعونا نعتبرها هكذا.

الجملة التى تتردد كثيرًا قبل بداية المعرض، وقبل كل معرض، نصها تقريبًا: «أنا الوحيد اللى مالوش كتاب فى المعرض السنة دى»، ورغم أن كاتبها فى الغالب واحد ممن أصابته حرفة الكتابة فى مجتمع لا يقرأ فيه سوى قلة لا تعبر بأى حال من الأحوال عن عموم المصريين والعرب، إلا أن الحقيقة فى تصورى أن كاتب هذه العبارة، والمتفاعل معها إيجابًا، لا يمكن تصنيفهم إلا كجهلة؛ بمعنى أن تكون كاتبًا فى بلاد كبلادنا، لا تحب الكتاب، ولا تحترم الكاتب، وحيث مجموع القراء فيها لا يصل فى أفضل التقديرات إلى نصف بالمائة، وربما كان أقل كثيرًا، وحيث لا يصل من يجيدون القراءة من هذه الفئة إلى نصف بالمائة من هذا النصف، ولا يملك غالبيتها رفاهية المغامرة بشراء كتاب يغالى الناشر فى تسعيره بحجة ضعف التوزيع، رغم أن المعادلة البسيطة تؤكد أنه كلما زاد عدد النسخ المطبوعة قلت تكلفة النسخة الواحدة، وأن الكتاب كسلعة مضمونة الربح، إذ يمكنها أن تعيش لمئات السنين، تتغير فيها أسعار الأوراق وإمكانات القراء، بينما يغطى الناشر، غالبًا، تكاليف الطباعة خلال أشهر من إصدار الكتاب، ومنهم من يغطى تكاليفه خلال فترة المعرض وحدها.

وسط هذا الواقع المؤلم لا يحصل من تصيبه حرفة الكتابة إلا على التقليل من منتجه، والعنت من ناشره، ورغم ذلك يصر على الاستمرار والعمل والمحاولة، ثم يأتى متنطع خفيف الظل ليسخر منه، ومن فرحته بصدور كتابه أو قرب صدوره، دون أن يعرف أى شىء عما يسبق هذه اللحظة من معاناة وقرف واتصالات، وأمور تصل فى بعض الأحيان إلى الدفع مقابل النشر، خصوصًا مع انتشار ظاهرة «الناشرين التجار»، وهى المسألة التى تطول عددًا من كبار الكتّاب، ممن يجهل أسماءهم الناشرون الذين يأتون فى الغالب من أى أكشاك لبيع الكتب المزورة فى الشوارع والنواصى، وبعضهم لا يجيد القراءة، ولا يعرف عن الكتاب إلا أنه «بضاعة ممكن تعيش»، ولا تفسد بالتقادم، أو مع مرور الزمن.

ومما يزيد من سوء المشهد انتشار ظاهرة دور النشر الموجهة التى تعمل على استقطاب الشباب الحالمين بمستقبل أدبى، وتوجيههم إلى نوعيات محددة من الكتابة منزوعة الخيال، مرة بدعاوى القيم والأخلاق وما شابه من عبارات لا تمت بصلة للكتابة الأدبية، ومرة بوهم «المحرر الأدبى»، المهنة التى تم تشويهها عربيًا، والانحراف بها عما ظهرت من أجله، فتحول مع دور النشر المصرية والعربية إلى مجرد شخص يعرف طريق الجوائز ووصفاتها الناجعة، يقتصر دوره غالبًا على «تشفية» الكتب والروايات، كأى جزار فى مذبح، فيعمل على إخصائها مما يميز كاتبها، أو يجعل له صوتًا يخصه، ويحولها إلى «بضاعة منزوعة الروح» تناسب ذائقة لجان التحكيم الخليجية، فلا يبقى من الرواية أو القصة أو حتى قصيدة الشعر سوى بعض المواعظ المستهلكة، والتوصيات الأخلاقية «الدينية فى غالبيتها»، وحكايات التنمية البشرية، لا تختلف عن غيرها إلا فى صورة الغلاف، واسم الكاتب، ولا تصلح إلا لجوائز بعينها، ومسابقات لا قيمة لها فى مسار أى أديب أو كاتب حقيقى.

فى وقت مثل هذا، تكون الرغبة فى الكتابة، والحلم بها، والتفكير فيها، والسعى إلى تحقيقها، وتحويلها إلى واقع ملموس، شرفًا ينبغى التفكير ألف مرة قبل التقليل منه، أو السخرية ممن يقدم عليه، ولو بعبارة سمجة لا تضيف شيئًا لقائلها، ولا تخصم ممن تقال عنه، ولا تستحق سوى الانصراف عنها وعن قائلها، الذى لا يكون فى الغالب أكثر من «نصف كاتب» غير متحقق، وغير قادر على الإنجاز، أو العمل، ويؤذيه أن يرى غيره يعمل.