رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اغتصاب الذاكرة.. تهويد التاريخ

يقول الروائى الإنجليزى المعروف د. هـ. لورانس: «الكتاب يجب أن يكون إما ثائرًا أو قاطع طريق»، يقصد أن الكتاب لا بد أن يشتبك بالقضايا الكبرى باندفاع ووضوح، ولدينا فى تاريخنا الفكرى والأدبى عدد غير قليل من تلك الكتب، منها ما قدمه إيهاب الحضرى مؤخرًا: «اغتصاب الذاكرة.. الاستراتيجيات الإسرائيلية لتهويد التاريخ» الذى يتصدى لاغتصاب إسرائيل الذاكرة العربية عامة والفلسطينية خاصة لكى تختلق بما تسرقه تاريخًا لنفسها. وبذلك الصدد يشير «الحضرى» إلى أن خطة الكيان بهذا الصدد لم تترك بلدًا جاء ذكره فى التوراة من دون السطو على تراثه، قامت بذلك فى فلسطين وسوريا ولبنان والعراق واليمن ومصر. ويقول إنه بعد أربعة أيام فقط من بدء الحرب فى ١٩٦٧، أعطى ضابط إسرائيلى إشارة للجرافات لإزالة حى أثرى كامل فى القدس، والاستيلاء على المتحف الفلسطينى وتحويله إلى مقر لدائرة الآثار الإسرائيلية! كما سطت قوات الاحتلال على أرشيف دائرة الآثار الفلسطينية ونهبت مقتنيات المتحف لمحو أى أثر فلسطينى. 

وفى العام نفسه بدأت الحفائر جنوب المسجد الأقصى وبلغت حد التهديد بتصدع المسجد، وفى عام ١٩٧٣ بدأت حفائر أخرى جنوب شرق المسجد، واستمرت متقطعة إلى يومنا هذا، لعلهم يكتشفون شيئًا، أو على الأقل يدمرون شيئًا. فى عام ٢٠٠٢ جرت الإطاحة بالمدن الفلسطينية القديمة فى نابلس والخليل، إضافة لكنيسة المهد فى بيت لحم، وحينذاك لم تعد الجرافات كافية، فأعطيت الأوامر للدبابات وطائرات الأباتشى لتقوم بالدور الأكبر فى محو التراث. 

ومن أمثلة تدمير المواقع التراثية: الجامع الكبير الذى تأسس منذ ١٨٠٠ سنة، وجامع الزيتون ١٦٠٠ سنة، والكنيسة اليونانية فى حى الياسمين ٤٠٠ سنة. وفى مطلع يونيو عام ٢٠٠٠، بعث وزير التعليم الإسرائيلى رسالة إلى مركز التراث العالمى تضمنت أسماء ٢٩ موقعًا يطلب تسجيلها فى قائمة التراث العالمى، بوصفها مواقع تراثية إسرائيلية! وكان النموذج الأكثر وقاحة من بينها هو طريق الحج من مكة إلى القدس! وفى ٢٥ يوليو ٢٠٠٤ نشرت صحيفة «هآرتس» تقريرًا عن إمكانية إطلاق طائرة مفخخة يقودها انتحارى يهودى لتفجير المسجد الأقصى! ذلك هو الحل الأخير فى خيالهم لتدمير الذاكرة وسرقة التاريخ. 

ومن اللافت فى ذلك السياق أن دولة الكيان اختارت دائمًا مواقع مستعمراتها «المستوطنات» فى المناطق الأثرية الفلسطينية، وقامت بعد ذلك بتغيير أسماء تلك المناطق على أساس أن الزمن سيتكفل باستقرار الكذبة، كما قامت بمحاولة استبدال التاريخ فى مناطق عراقية وسورية ولبنانية ويمنية، ويكفى فى ذلك السياق أن نتذكر المحاولات المتتابعة لربط ملوك مصر القديمة بأنبياء إسرائيل، ثم ادعاء مناحم بيجين ذات يوم، وهو واقف أمام الأهرامات، أن أجداده هم بناة الأهرامات، رغم أن أول ذكر لبنى إسرائيل كان بعد ظهور الهرم بنحو ألف وخمسمائة عام، ويرصد الكتاب أيضًا السطو على التراث خلال العدوان البربرى على غزة هذه الأيام، فيشير إلى قصف واستهداف كنيسة الروم الأرثوذكس التى بُنيت منذ ثمانمئة عام، والمسجد العمرى فى جباليا الذى يعود بناؤه إلى نهايات العصر العثمانى. 

يقدم «الحضرى» إلينا كتابًا من النوع الذى قال عنه بريخت: «أيها الإنسان.. فى المعركة تناول كتابًا.. إنه سلاح أيضًا»، وما أحوجنا إلى تلك الأسلحة الفكرية التى تجلو الغبار عن الحقيقة.