رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عودة عبداللطيف المناوي من «كوكب الزوحليقة»

خرج علينا الأستاذ عبداللطيف المناوي الكاتب الصحفي، في مقال نشرته الزميلة «المصري اليوم» بتاريخ الجمعة، 17 نوفمبر الجاري، تحت عنوان: «الصورة بعد 41 يومًا من الحرب». يتساءل فيه عن مدى استفادة القضية الفلسطينية من عملية «طوفان الأقصى» التي وصفها بـ«فعلة حماس»، التي جرت وبالًا على سكان قطاع غزة.

كلمات المناوي لا تختلف كثيرًا عن السردية التي دأبت آلة الدعاية الصهيونية على ترديدها، وأيدتها في ذلك قوى النفاق الغربية التي أدارت ظهرها للقانون الدولي الإنساني، وكل المواثيق التي تحمي المدنيين خلال الحروب، وحملت الضحية مسؤولية الجرائم والانتهاكات الخطيرة الواقعة بحق أهلنا في غزة.

يصف «المناوي» كأنه عاد لتوه من رحلة إلى الفضاء، بدأها في العام 1947، قبل قيام ما يعرف بـ«دولة إسرائيل»، عملية طوفان الأقصى بأنها سَكرة، وأوهام عن تحرير فلسطين، وهزيمة من لا يهزم (حسب اعتقاده)، وأن الهدف من وراء العملية مجرد الإفراج عن عدد من «النساء والأطفال» في السجون الإسرائيلية.

يتساءل الرجل: هل كل الآلاف الذين استشهدوا وأصيبوا ثمن مناسب لإخراج العشرات من الأسرى من السجون الإسرائيلية، ذاهبا في شطحاته إلى أن الهدف الأكبر بات النجاح في وقف إطلاق النار، قبل أن يعود لوصف انتهاكات الاحتلال بحق شعبنا الصامد في فلسطين بأنها جرم تجاوز كل حدود الإنسانية، ويصف دولة الاحتلال بأنها عاجزة عن القضاء على حماس.

ينهي «المناوي» مقاله بالقول، إن: الكل خاسر، والخاسر الأكبر هم أولئك الذين نراهم على الشاشات من الفلسطينيين البسطاء، شهداء، مصابون، ونازحون. لن يفيدهم تمجيد من تسبب في وضعهم في هذا الموقف. في إشارة إلى عملية طوفان الأقصى.

يبدو أن رحلة الأستاذ المناوي في الفضاء الخارجي قد أعاقت وصول بعض المعلومات والحوادث والنوائب إلى عقله ورأيه وقلمه، فالرجل الذي سافر إلى كوكب «الزوحليقة» وهو كوكب يبعد عن الأرض مئات الآلاف من الكيلومترات، ساوى بين الضحية والجلاد، واعتبر نضال الفلسطينين سببًا في موجة الانتهاكات الدموية التي ترتكبها قوات الاحتلال على الشاشات أمام أنظار العالم.

وتغافل، أو أنه لا يعلم، أن آلة القتل الصهيونية لا تحتاج مبررات لارتكاب المجارز بحق المدنيين، وأن كل بيت عربي يحمل ذكرى حزينة، وأن كل كتب التاريخ المعاصر تحوي في طياتها آلاف القصص عن همجية هذا العدو، وأن مذبحة «دير ياسين» التي راح ضحيتها 250 فلسطينيًا أغلبهم من النساء والأطفال وكبار السن في أبريل عام 1948، لم تكن رد فعل على أي مقاومة، ولكنها رغبة العصابات الصهيونية في قتل كل ما هو عربي على هذه الأرض التي تمتد بين نهري النيل والفرات.

في كوكب «الزوحليقة» الذي قضى فيه عبداللطيف المناوي السنوات الـ75 الماضية، لم تكن لديهم صحف تنقل الأخبار عن هجوم القوات الجوية الإسرائيلية في صباح الثامن من أبريل عام 1970، على مدرسة بحر البقر المشتركة في محافظة الشرقية، والذي أودى بحياة 30 طفلا في مثل سنه حينها.

وربما لم تكن في كوكب «الزوحليقة» أيضًا، إذاعات تبث أخبار مجزرة «الطنطورة»، والـ200 شهيد الذين ذبحتهم سكين الصهوينية بدم بارد، بعد شهر واحد من مجزرة دير ياسين، ثم دفنتهم في مقابر جماعية تحولت الآن إلى موقف سيارات بأحد الشواطئ.

مكاسب طوفان الأقصى كثيرة، ولا يكفي مقال واحد لإحصائها، ولكن يمكن الإشارة إلى بعضها في هذه السطور، فعلى سبيل المثال، انتفضت برلمانات عدد من الدول الأوروبية تطالب بالاعتراف بدولة فلسطين وفق مقررات الشرعية الدولية على حدود الرابع من يونيو عام 1967، وطالب سياسيون ووزراء أوروبيون بوقف تصدير السلاح إلى إسرائيل، وتقديم رئيس وزرائها المتطرف للمحاكمة أمام المحكمة الجنائية الدولية.

انتفضت الشعوب الغربية ضد حكوماتها، رافعة الأعلام الفلسطينية في ميادين العواصم الكبرى بدءا من العاصمة الأمريكية واشنطن وصولا إلى عاصمة الضباب الإنجليزية التي خرج فيها يوم السبت الماضي نحو 500 ألف متظاهر ضد الانتهاكات الصهيونية بحق شعبنا الفلسطيني في غزة.

أطاحت «طوفان الأقصى»، بوزيرة الداخلية البريطانية المتطرفة التي وقفت ضد التظاهرات الداعمة للفلسطينيين، وجاء برئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون إلى الواجهة من جديد عبر توليه حقيبة الخارجية، وهو من كبار مؤيدي «حل الدولتين» بين القادة الغربيين، ومعروف بإدانته الدائمة لعمليات الضم وبناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

لا يمكن إنكار وجود ضحايا بالآلاف من الأطفال الأبرياء، والنساء، وكبار السن، وذوي الإعاقة في قطاع غزة، ولا يمكن إخفاء التضامن معهم والحزن لمآسيهم المتواصلة منذ 75 عامًا، لكنها الحرية، غالية الثمن، والكرامة التي لا يمكن الحصول عليها إلا ببذل الدماء والأموال والأولاد، ولنا في ثورة التحرير الجزائرية التي امتدت لـ8 سنوات أسوة حسنة، والتي انتهت بتحرير كامل التراب الجزائري من الاستعمار الفرنسي، رغم الهوة الكبيرة في إمكانيات الطرفين، لكن «صاحب الحقي عفي»، و«ما ضاع حق وراءه مُطالب».

في مدرستي القديمة الآيلة للسقوط في قرية نائية بمحافظة أسيوط، كانوا يدرسوننا مادة تسمى القيم والأخلاق، أغلب الظن أنها لم تكن بين المواد التي درسها الأستاذ عبداللطيف في مدرسة كوكب «الزوحليقة» الابتدائية المشتركة.. كانت مدرستي مزينة بالحكم القديمة الموروثة من أجدادنا الفراعنة، لكن أبرز ما أتذكره منها، قول الحكيم: صحيح، اللي اختشوا ماتوا.