رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيث وايتلام.. اختلاق إسرائيل

عندما عمت الموجات الاستعمارية الإنجليزية والفرنسية أواسط وأواخر القرن ١٩، راجت معها كلمة «الاستعمار»، وهى ترجمة غير صحيحة للكلمة الإنجليزية colonialism التى تعنى فقط «الاحتلال والحكم الأجنبى»، أما كلمة الاستعمار فإنها مأخوذة من الفعل عمّر، عمرانًا، وعمارة، واستعمر الأرض أى عمّرها. 

وقد تكون الترجمة فى حينه غير دقيقة، أو أن الأوساط الاستعمارية، وهو الأرجح، هى التى حرصت على ترجمة كلمة «الاحتلال» على أنها «استعمار»، لتسبغ على غزواتها صفة التعمير ونشر الحضارة. 

ولقد قامت إسرائيل أيضًا بعملية مشابهة حين ربطت بين وجودها، قاعدة عسكرية استعمارية، والأساطير الدينية لتسبغ على نفسها ما يغطى قبح حقيقتها. وفى كتابه «اختلاق إسرائيل القديمة» ترجمة د. سحر الهنيدى يفند الكاتب البريطانى المعروف كيث وايتلام التأريخ الذى قامت وتقوم به «المدرسة التوراتية» التى تعتمد التوراة مصدرًا أساسيًا للتاريخ الإسرائيلى، وحسب تلك المدرسة فإن مملكة داود القديمة حقيقة تاريخية لا جدال فيها، ويؤكد ذلك الادعاء استمرارية إسرائيل التاريخية، بينما يجزم الكاتب بأننا: «إذا نظرنا من منظور أطول زمنًا فإن تاريـخ إسـرائـيـل الـقـديم يبدو مثل لحظة قصيرة فى التاريخ الفلسطينى الطويل»، بينما لم تكن إسرائيل سوى «خيط رفيع فى نسيج التاريخ الفلسطينى الغنى»، إلا أن مدرسة التأريخ التوراتية تقلب الوضع وتعكسه. وسنجد أنه فى الدراسات التوراتية عن تاريخ إسرائيل القديم تجرى الإشارة إلى فلسطين بصفتها منطقة جغرافية دون الإشارة إلى السكان بصفتهم فلسطينيين، إنهم سكان مجهولون، ولا يبدأ التاريخ عندهم إلا مع بداية التاريخ الإسرائيلى. 

ويشير كيث وايتلام بذلك الصدد إلى أنه أثناء أبحاثه وعكوفه على الكتاب فوجئ بحقيقة غريبة ألا وهى أن: «تاريخ إسرائيل القديم حكر على كليات الدين واللاهوت وليس الأقسام التى تدرس التاريخ!»، وبصدد توظيف الأساطير الدينية غطاء لدور إسرائيل قاعدة عسكرية أشار مهدى عامل إلى حقيقة غاية فى الأهمية فى كتابه «مدخل إلى نقض الفكر الطائفى» حين قال إن قيام إسرائيل لم يرتبط بالحركة الاستعمارية فحسب، ولا الصهيونية، وإنما تزامن أيضًا مع نشوء حركات التحرر الوطنى والقومى فى المجتمع العربى، أى أن إسرائيل كانت ضرورة للاستعمار الذى استشعر هبة حركات التحرر، واستعد لها. 

ولهذا كله لم تكن قصة إنشاء دولة إسرائيل قصة لم الشتات اليهودى، بقدر ما كانت قصة تأسيس قاعدة استعمارية تسبغ على نفسها أساطير قومية ودينية تبريرًا لوجودها. وهذا يفسر كون الحركة الصهيونية جزءًا لا يتجزأ من المنظومة الفكرية للحركة الاستعمارية، مستخدمة أدواتها، ومتماهية معها، ومتأهبة دومًا لتقديم خدماتها للاستعمار فى أى رقعة من العالم. وعلى أهمية كتاب كيث وايتلام الذى نبهنى إليه الصديق سامح الموجى، فقد كتب الكثيرون فى ذلك وكان فى مقدمتهم كارل ماركس بكتابه «حول المسألة اليهودية» وطرح فيه ليس أن يتخلص اليهودى من ديانته بل أن تتخلص الدولة من الديانة نحو ترسيخ القيم الديمقراطية، وهى الفكرة ذاتها التى طرحها لينين حين نادى بوجوب ذوبان اليهود داخل المجتمعات التى يعيشون فيها. 

فى كل الأحوال يعد كتاب «اختلاق إسرائيل» الصادر ١٩٩٩ طلقة أخرى تمزق الأكاذيب وتخلع الأقنعة الدينية عن الكيان الصهيونى.