رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من داغستان.. تحية لغزة

يقول رسول حمزاتوف، شاعر داغستان الأعظم: «الوطن ليس أغنية، لكنه خفقان القلب الذى تولد منه الأغنية». ومن داغستان إلى غزة ترفرف أحر مشاعر التعاطف، أبداها المواطنون الذين مضوا جماعات غاضبة طوّقت فندق «فلامينجو» تطالب بطرد السائحين الإسرائيليين منه، كما هاجموا مطار العاصمة يحتجون على استقباله طائرة إسرائيلية بقبضات مرفوعة صارخين: «لا مكان لقتلة الأطفال فى داغستان»، وفى خضم الغضب الشعبى على مجازر غزة ارتعب اليهود الجبليون هناك، وناشدوا السلطات أن تحميهم من أى أعمال انتقامية، ولذلك أصبحت الشرطة فى كل جمهوريات القوقاز فى حالة استنفار لاستبقاء الغضب الشعبى على إسرائيل فى إطار التحرك السلمى.

وتعليقًا على ذلك، صرّح مسئول أمريكى بأن أحداث داغستان «تمثل عداءً للسامية»، ولم يكن هناك رد على ذلك أفضل مما قاله فاسيلى نيبينزيا، مندوب روسيا لدى الأمم المتحدة، من أن: «ليس لإسرائيل حق الدفاع عن النفس فى هذا الصراع، لأنها دولة احتلال»، وهو المعنى نفسه الذى أشار إليه أمين عام الأمم المتحدة، حين قال إن هجمات حماس فى السابع من أكتوبر على إسرائيل «لم تحدث من فراغ، لكنها نتيجة ٥٧ عامًا من الاحتلال الخانق». 

وقد يستغرب من لا يعرفون تاريخ داغستان ذلك التعاطف الشعبى مع فلسطين، فقد دخل العرب القوقاز فى القرن السابع الميلادى، وانتشر الإسلام هناك، وكانت اللغة العربية لغة داغستان الرسمية حتى ١٩٣٠، وسادت الثقافة العربية فى تلك الأنحاء، وما زال لها تأثير كبير. 

ومن داغستان برز الإمام شامل، الذى كان يتقن العربية، ومكتبته عامرة بالكتب العربية، وهو الذى قاد القوقاز للتحرر من سيطرة القياصرة ثلاثين عامًا، وكان يخطب فى الشعب ويكرر: «قدسوا الحرية يا أهل الجبال، كأنها أمهاتكم ولا يغرنكم ذهب أو ثروة». وعن ذلك الثائر العظيم كتب فريدريك أنجلس يقول: «إن أهم حركات التحرر الوطنى فى القرن التاسع عشر قام بها الإمام شامل والأمير عبدالقادر الجزائرى». 

وقد وجدت إسرائيل نفسها فى مأزق لا تحسد عليه بعد عملية ٧ أكتوبر، فهى إذا لزمت الصمت تكشفت كذبة الدولة القوية، وإذا ضربت تبينت فاشيتها للعالم، خاسرة فى الحالتين، مثلها مثل شخص وقع فى رمال متحركة، كل اهتزازة أو حركة فى أى اتجاه تجعله يغطس أعمق فى هلاكه. 

يقول رسول حمزاتوف فى إحدى قصائده: «يصدأ ذلك الخنجر الراقد فى غمده، ويترهل الفارس الراقد فى بيته». ولقد أشهرت المقاومة خناجرها من أغمادها، وأظهرت فرسانها، رغم كل شىء. 

وقد أسعدنى الحظ بزيارة داغستان عدة مرات، وفى إحداها كنت مارًا بشارع هادئ أبحث عن مكان أشرب فيه قهوة، ولمحت لافتة مكتوبًا عليها «كافيه بالميرو» وقد وقف تحتها شاب، سألته: عندكم قهوة تركى؟ أجابنى: تفضل، وتقدمنى إلى ممر مسقوف بتعريشة عنب فى شبه حديقة، وظهرت بعد قليل فتاة وضعت أمامى قدح القهوة وصحنًا بشطائر الجبن وسألتنى بأدب: أى شىء آخر؟، شكرتها، فانصرفت، وعندما انتهيت من القهوة صحت على الشاب وسألته: كم الحساب؟ أجابنى: لا شىء. قلت: كيف؟ هذا كافيه ولا بد من دفع الحساب، رد بأدب: لا هذا ليس كافيه، هذا منزلنا. قلت: لكن هناك لافتة كبيرة مكتوبًا عليها كوفى شوب؟. قال: نعم، لكن مدخل الكوفى شوب فى الناحية الأخرى من الشارع. تعجبت قائلًا: والجرسونة الشابة؟ ضحك قائلًا: إنها زوجتى زينب. وأضاف: أنت سألتنى عن قهوة وقدمناها، واجب الضيافة نحو الغرباء..

هذا هو شعب داغستان الذى يرسل الآن تحية التضامن العميق مع غزة.