رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أمننا القومى خط أحمر.. قادرون على حمايته

يُحكى أن قومًا اجتمعوا يناقشون ويخطبون في صلح بين حيين، قتل أحدهما من الآخر قتيلًا، ويسألون أن يرضوا بالدية، وبينما هم في ذلك، جاءت أمَةٌ يُقال لها (جهيزة)، فقالت: إن القاتل قد ظفر به بعض أولياء المقتول فقتلوه، فقالوا عند ذلك: (قطعت جهيزة قول كل خطيب)، أي قد استغنوا عن النقاش والخُطب، الذي لم يُعد بعده نقاشًا، وصار هذا القول مضربًا للمثل في الأمر المحسوم الذي لا يحتمل جدلًا ونقاشًا.. وهكذا فعلت مصر بشأن أمنها القومي، الذي قالت فيه كلمتها، فلم يعد بعد ذلك كلام، أو كما يقولون في العموم (مات الكلام).. أجمل الرئيس عبدالفتاح السيسي في كلمته قبل أسبوع، (إن الأمن القومي المصري خط أحمر، والحفاظ عليه هو دور أصيل، بهدف حماية الحدود.. مصر لم تكن أبدا تتجاوز حدودها وأهدافها، وتحافظ دومًا على أرضها وترابها.. إن الجيش المصري، بقوته وقدرته المتعقِّلة والرشيدة والحكيمة، لا يطغى ولا يسعى خلف أوهام، وأن هدفه حماية مصر وأمنها القومي دون تجاوز).
ولعلنا لا ننسى، يوم وقف الرئيس السيسي، خلال تفقده للمنطقة الغربية العسكرية، يوم السبت، العشرين من يونيو 2020، وأكد أن تجاوز مدينة سرت وقاعدة الجفرة الجوية الليبية، يعتبر بمثابة (خط أحمر لبلادنا وأمنها القومي).. كان ذلك يوما دعا الرئيس إلى وقف إطلاق النار في ليبيا عند نقطة الاشتباك على حدود مدينة سرت (منتصف الساحل الليبي) وقاعدة الجفرة الحصينة، بين قوات الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، وقوات حكومة الوفاق الليبية.. قال (لنتوقف عند الخط الذي وصل إليه طرفا المنطقة الغربية والشرقية ونبدأ وقف إطلاق النار.. خط سرت والجفرة، وهذا خط أحمر بالنسبة لمصر وأمنها القومي)، وأي تدخل مباشر من جانب مصر في ليبيا باتت تتوفر له الشرعية الدولية، لأنه كانت هناك تدخلات غير شرعية في منطقتنا، تُسهم في انتشار الإرهاب وزعزعة الأمن.. وشدَّد على ضرورة سحب كافة القوى الأجنبية إلى خارج ليبيا بشكل فوري.
إن الحديث عن الأمن القومي والحفاظ عليه، هو ما يتردد بشكل كبير، وهو دور أصيل ورئيسي للقوات المسلحة، وهو حماية الحدود المصرية وتأمين الأمن القومي المصري ومصالح مصر.. فمصر، عبر تاريخها القديم والحديث، لم تتجاوز حدودها، وكان كل أهدافها الحفاظ على أرضها وترابها دون أن تُمس، وهذا يعني أن الجيش المصري، بقوته ومكانته وقدرته وكفاءته، هدفه حماية مصر وأمنها القومي دون تجاوز.. وهنا يحضرني ما قاله الدكتور محمد عبد المقصود، الأمين العام للمجلس الأعلي للآثار السابق، إن مصر دولة عظمى، وحدودها محددة ومُحصَّنة ومنقوشة على جدران معبد الكرنك منذ سنوات بعيدة، إلا أن مصر عبر التاريخ يأتي اليها الخطر من حدودها الشرقية، والمتمثلة في سيناء والتى جاء منها الغزاه مثل الهكسوس.. وإنه منذ فجر التاريخ، أوصى الفراعنة بتواجد البشر على تلك الحدود، لأن العدو عادة لا يهاجم مدينة يقطنها الناس، وبالرغم من دخول الهكسوس مصر من البوابة الشرقية، واستخدامهم لمعدات وعجلات حربية لم يكن يعرفها المصري القديم، وظلوا في مصر ما يزيد على مائة عام، استطاع الملك أحمس أن يخرجهم ويؤمِّن الحدود المصرية.. وقام الملك أحمس ببناء أول قلعة في منطقة القنطرة شرق، وقد قام ببناء إحدى عشر قلعة أخرى، حتى الوصول إلى مدينة رفح، لتكون خط دفاع قويا عن مصر ضد أي معتد.
ودعونا هنا نتفق على أن معظم التعريفات الخاصة بالأمن القومي تدور حول ارتباطه بحماية الدولة من جميع الأخطار الداخلية والخارجية.. ومن بين التعريفات الشاملة للأمن القومي، تعريفه بأنه (القيم النظرية والسياسات والأهداف العملية المتعلقة بضمان وجود الدولة، وسلامة أركانها، وديمومة مقومات استمرارها وشروط استقرارها، وتلبية احتياجاتها، وتأمين مصالحها، وتحقيق أهدافها، وحمايتها من الأخطار القائمة والمحتملة داخليًا وخارجيًا، مع مراعاة المتغيرات الداخلية والإقليمية والدولية). ويضيق مفهوم الأمن القومي ويتسع حسب قوة الدولة ومدى انتشار مصالحها عبر أنحاء العالم.. فقد تَعتبِر الدول الكبرى ما يحدث من تطورات في قارات بعيدة عنها بمثابة أحداث مؤثرة على أمنها القومي.. فمثلا اعتبرت أمريكا أن اجتياح كوريا الشمالية لكوريا الجنوبية عام 1950، بمثابة تهديد شيوعي لنفوذها العالمي وأمنها القومي، وكذلك اعتبرت العديد من الدول الغربية أن سي*طرة النظام العراقي بقيادة صدام حسين على الكويت عام 1990، بمثابة تهديد جِدي لمنابع النفط الذي يمثل شريان الاقتصاد العالمي، ومن ثم اعتبرته خطرًا على أمنها القومي.
وكذلك اعتبرت مصر وجود الجماعات المسلحة والميليشيات داخل ليبيا، مع سيطرة دول بعينها على نظام الحكم في طرابلس، تهديدًا لأمننا القومي، ومن ثم، أعلن الرئيس السيسي أن خط سرت ـ الجفرة، خط أحمر، لا يجب تجاوزه، وإلا أُعتُبِرَ ذلك اعتداءً على أمن مصر القومي.. وكذلك مصر الآن، تعتبر أن ما يحدث من تدمير إسرائيلي لقطاع غزة، ووحشيتها في القتل العشوائي، تهديد لأمن مصر القومي، إذ من المحتمل أن يدفع ذلك إلى تهجير أهل القطاع، من غزة إلى سيناء.. وعندما بدأت الأقاويل تنتشر حول نية الكيان الصهيوني ومعه أمريكا ودول أوروبا، بل وبعض المُستعربين في منطقتنا، حسم الرئيس الشائعات التي ترددت حول ذلك، وأكد أن بلادنا لا ولن تتأخر عن مساعدة الفلسطينيين، لكن (خروجهم من بلادهم يعني تصفية القضية الفلسطينية التي هي قضية العرب جميعًا)، ثم هي تهديد صريح لأمننا القومي، الذي لا نفرط فيه، ولا نتهاون في الدفاع عنه، مهما كلفنا الأمر.. فمصر دولة ذات سيادة،  لا يمكنها أن تفرط في ذرة من ترابها، وقادرة على حماية أمنها، وبالقوة الخشنة، إن استدعى الأمر.
من يتذكر معي ما قاله الرئيس السيسي، خلال جولة تفقده تفتيش حرب الفرقة الرابعة المدرعة بالجيش الثالث الميداني بالسويس، من أنه (بعد خمسين عامًا من المهم أن نستخلص الدروس والعبر من حرب أكتوبر، والاستمرار في ذلك).. لم يقلها الرئيس السيسي جملة عابرة، بل كأنما أراد أن يقول إن المصريين ليسوا فقط، أو أن العرب ليسوا وحدهم، هم الذين استفادوا من حرب أكتوبر المجيدة، ولكن تعلم منها العالم أجمع.. فبالرغم من الآلات والمعدات الحربية التي كان يمتلكها جيش العدو، إلا أن الجيش المصري نجح في كسر القيود والحسابات التي كانت تصب في مصلحة الجيش الصهيوني وقلبها لصالحه.. إلا أن أهم ما أراد الرئيس الإشارة إليه، هو أن التكاتف بين الجيش المصري والشعب هو الذي انتصر في المعركة، ونجح في بناء بنية تحتية لمصر، كما أن تكاتف المصريين دفع الدولة لاستعادة الأرض المحتلة.. السرية التي يجب أن تتواجد في بعض الأوقات، من أجل إتمام عنصر المفاجأة وتحقيق المراد.. الالتزام والتخطيط، الذي يجب أن يتواجد في حياة كل إنسان من أجل الوصول لما يرغب فيه.. الإصرار على الحرب لاستعادة الأرض المحتلة.. عدم السير وراء الإحباط والعقيدة التي تقوم على القدرات القتالية فقط.. الإيمان بالعقيدة والنجاح مهما كانت الظروف، ووجود الروح العالية.. ضرورة التكاتف ضد العدو وترك الاختلافات بين الشعب الواحد في وقت المعارك.
كانت هذه دروس وعبر من نصر تحقق، بعدما أراد الشعب والجيش استعادة الأرض السليبة، وتحويل الهزيمة في يونيو 67 إلى انتصار.. فما بالنا وأرضنا بين أيدينا، نقلبها كيف نشاء.. إلا يستدعي منا ذلك الذود عنها والموت دونها؟.
وأخيرًا.. 
فقد وجهت زيارة رئيس الوزراء، الدكتور مصطفى مدبولى، برفقة سياسيين وإعلاميين ونواب ومجتمع مدنى ونقابات إلى سيناء قبل أيام، خمسة رسائل واضحة للعالم أجمع، أولى هذه الرسائل، أن جميع المصريين ـ حكومة وشعبًا ـ يرفضون تصفية القضية الفلسطينية، ثانيًا، أن حدود مصر أمن قومى وتعد خطًا أحمر لا يمكن المساس به، وثالثًا، أن التنمية هى سلاح الدولة المصرية للنهوض بشمال سيناء، ورابعًا، أن جموع الشعب المصرى تصطف صفًا واحدًا خلف القيادة السياسية، وخامسًا، مُضي مصر بخطى واسعة نحو تنفيذ استراتيجيتها الوطنية لتنمية سيناء، لأنها آفاق المستقبل الواعد لكل المصريين.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.