رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حتى لا تكون إسرائيل (مفْرَخة) للإرهاب

من غير المرجح أن تنجح استراتيجية إسرائيل لهزيمة حماس، بتدمير قدراتها العسكرية والسياسية، حتى لا تستطيع الحركة أبدًا شن هجمات كبيرة ضد المدنيين الإسرائيليين مرة أخرى.. كل ما تفعله إسرائيل الآن، أنها تنتج جيلًا جديدًا ممن أصبح لهم ثأر مع إسرائيل، وإن كانت تل أبيب الآن تتهم حماس بالإرهاب، فإن الجيل الجديد من الغزاويين سيصبح أكثر عنفًا مع إسرائيل، عمن تقول إنها تقتلهم الآن من حماس.. هكذا يرى روبرت بيب، أستاذ العلوم السياسية ومدير مشروع جامعة شيكاغو للأمن والتهديدا، وهو مؤلف العديد من الكتب عن القوة الجوية والإرهاب، بما في ذلك (القصف من أجل الفوز: القوة الجوية والإكراه في الحرب).. في مقال هذا الكاتب، على موقع CNN، المُعبر القوي عن المخابرات الأمريكية، يؤكد أنه لإلحاق الهزيمة بحماس، من المهم فصل هؤلاء عن السكان المحليين الذين ينحدرون منهم. وإلا (فإن الجيل الحالي من الإرهابيين يمكن أن يقتل، ليحل محله جيل جديد أكبر من الإرهابيين في المستقبل).. فيما يسميه الخبراء بـ(رياضيات مكافحة التمرد).
وعلى الرغم من أن مبدأ فصل الجماعة المسلحة عن السكان الأوسع بسيط، إلا أنه من الصعب للغاية تحقيقه عمليًا.. ولهذا السبب شنت إسرائيل والولايات المتحدة عمليات عسكرية كبرى، قتلت خلالها أعدادًا كبيرة من المسلحين على المدى القريب، لكنها أدت غالبًا في النهاية إلى صعود المزيد من (الإرهابيين)، في غضون أشهر.. حدث هذا النمط بالضبط في الماضي عندما:
1ـ غزت إسرائيل جنوب لبنان بحوالي ثمانية وسبعين ألف جندي وحوالي ثلاثة آلاف دبابة ومركبة مدرعة في يونيو 1982.. كان الهدف هو سحق (إرهابيي) منظمة التحرير الفلسطينية، وحققت إسرائيل نجاحًا على المدى القريب.. ومع ذلك، تسببت هذه العملية العسكرية في قيام حزب الله في الشهر التالي، وأدت إلى دعم محلي واسع لحزب الله وموجات من الهجمات الانتحارية، وأدت في النهاية إلى انسحاب الجيش الإسرائيلي من جزء كبير من جنوب لبنان عام 1985، ونمو حزب الله منذ ذلك الحين، حتى أصبح بالقوة التي هو عليها الآن، وتعمل له إسرائيل ألف حساب.
2ـ حافظت إسرائيل على احتلال عسكري كثيف لغزة والضفة الغربية منذ أوائل تسعينيات القرن العشرين إلى عام 2005.. ونجحت هذه العمليات في قتل العديد من من رجال حماس والجماعات الفلسطينية الأخرى، ولكنها أدت أيضًا إلى دعم محلي واسع النطاق للجماعات المسلحة، وإلى حملات واسعة النطاق من الهجمات الانتحارية ضد الإسرائيليين، التي لم تتوقف إلا عندما غادرت القوات العسكرية الإسرائيلية الثقيلة.. وبعيدًا عن الهزيمة، فازت حماس في الانتخابات الفلسطينية عام 2006.
3ـ  شنت إسرائيل هجومًا بريًا على لبنان في يوليو وأغسطس 2006.. وعلى الرغم من أن الهدف كان تدمير قادة حزب الله ومقاتليه بالكامل، حتى لا يتمكنوا من اختطاف الجنود الإسرائيليين مرة أخرى، وإطلاق الصواريخ على المدن الإسرائيلية، إلا أن الهجوم الإسرائيلي فشل، ونتيجة لذلك أصبح حزب الله أقوى بكثير اليوم.
4ـ غزت الولايات المتحدة العراق واحتلته عام 2003 بمائة وخمسين ألف جندي.. هزمت القوات الأمريكية جيش صدام حسين بالكامل في غضون ستة أسابيع.. ومع ذلك، أدت هذه العمليات العسكرية الثقيلة إلى أكبر حملة مسلحة انتحارية في العصر الحديث، وحرب أهلية كبرى في العراق، وفي النهاية صعود داعش إلى المشهد في الشرق الأوسط.
وهنا نتساءل: هل يعيد التاريخ نفسه في غزة 2023؟.
في غزة، ربما يكون هذا النمط المأساوي يحدث بالفعل.. في الوقت الحالي، لا نشهد الفصل بين حماس والسكان المحليين، بل الاندماج المتزايد بين الاثنين، مع احتمال تزايد التجنيد لحماس.. إن الأمر الإسرائيلي بتهجير 1.1 مليون فلسطيني ـ سكان شمال غزة ـ  باتجاه الجنوب لن يخلق فصلًا ذا مغزى بين المسلحين والسكان.. لا يستطيع الآلاف التنقل، لأنهم صغار جدًا أو كبار السن أو مرضى أو مصابون للغاية، ويعتمدون على الرعاية المتخصصة والمستشفيات.. وبالتالي، فإن إجلاء جميع السكان المدنيين في شمال غزة غير ممكن. وحتى لو انتقل السكان المدنيون، فإن العديد من مقاتلي حماس سيذهبون معهم ببساطة.. وعلاوة على ذلك، أصر المدنيون على عدم الإخلاء وتركهم أرضهم ومنازلهم.. وبما أن حماس والسكان المدنيين لا يزالون مندمجين بإحكام، فلم يكن من المستغرب أن تؤدي العمليات الإسرائيلية لقتل مسلحي حماس إلى مقتل أكثر من ثمانية آلاف مدني، حتى الآن.. جميعهم تقريبًا لديهم أفراد من عائلاتهم، من المحتمل أن يتم تجنيدهم بالفعل من قِبَل حماس بأعداد كبيرة.. يجب أن نتوقع أن تزداد حماس قوة، لا أن تصبح أضعف، مع مرور كل يوم.
إذن، ما الذي يجب عمله؟.
لهزيمة هذا النوع من الجماعات، من الأهمية بمكان الانخراط في حملات طويلة من الضغط الانتقائي، على مدى سنوات، وليس مجرد شهر، أو شهرين أو ثلاثة من العمليات البرية الثقيلة، والجمع بين العمليات العسكرية والحلول السياسية منذ وقت مبكر.. والواقع أن مجرد الجهد المبذول للقضاء على المسلحين في غضون شهر أو شهرين فقط عسكريًا، مع القليل من التفكير في النتيجة السياسية ـ كما يبدو أن إسرائيل تفعل الآن ـ هو ما ينتهي به الأمر إلى إنتاج مسلحين أكثر مما تقتل تل أبيب الآن.
والطريقة الوحيدة لإلحاق ضرر دائم بالجماعات المسلحة، هي الجمع بين الهجمات الانتقائية المستمرة ضد (الإرهابيين) المحددين، تكون عادة في حملة طويلة من السنوات، وبين العمليات السياسية، التي تدق الأسافين بين هؤلاء والسكان المحليين الذين يأتون منهم.. ومن الخطأ أن تجري إسرائيل مقارنات بين حماس وهزيمة داعش، فمن المهم أن نتذكر أن قوات داعش أحدثت فرقًا هائلًا، من خلال ممارسة الضغط العسكري ضد داعش نفسها، في العراق وسوريا، على مدى سنوات، بطرق لم تُحفز السكان المحليين على استبدال من يُقتل منهم، بشكل فعال.. الحملة التي هزمت داعش، جمعت العمليات العسكرية والسياسية معًا، عمليًا منذ البداية.. وفي المرحلة المقبلة، تحتاج إسرائيل إلى مفهوم استراتيجي جديد لهزيمة حماس.. الطريقة الوحيدة القابلة للتطبيق لفصل حماس عن السكان المحليين هي سياسيًا.
كانت رؤية إسرائيل الاستراتيجية هي الدخول عسكريًا بشكل كبير أولًا، ثم تحديد العملية السياسية لاحقًا.. لكن من المرجح أن يؤدي ذلك إلى دمج حماس والسكان المحليين معًا أكثر فأكثر، وإنتاج مقاتلين أكثر مما يُقتل.. علاوة على ذلك، لا يبدو أن لدى إسرائيل خطة سياسية لفترة ما بعد القضاء على حماس.. منذ عام 2006، كانت حماس الحكومة الوحيدة في غزة.. تزعم إسرائيل أنها لا تريد أن تحكم غزة، لكن غزة ستحتاج إلى أن تُحكم، ولم تشرح إسرائيل بعد، كيف ستبدو غزة ما بعد حماس.. ما الذي سيمنع (حماس 2) من ملء فراغ السلطة؟.. وبالنظر إلى غياب بدائل سياسية جدية لحماس، فلماذا يجب على الفلسطينيين التخلي عن حماس؟.
هناك بديل: الآن، وليس في وقت لاحق، بدء العملية السياسية نحو مسار إلى دولة فلسطينية، وخلق بديل سياسي لحماس، قابل للتطبيق للفلسطينيين.. وهذا يمكن أن يفصل حماس أكثر فأكثر مع مرور الوقت، وبالتالي يؤدي إلى نجاح كبير.. يجب أن يكون الفلسطينيون هم الذين يقررون من يقود غزة.. هذا المفهوم الاستراتيجي الجديد، هو أفضل طريقة لهزيمة حماس وتأمين سكان إسرائيل وتعزيز مصالح أمريكا في المنطقة.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.