رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جبروت امرأة

إنها «ست الملك» شقيقة «الحاكم بأمر الله».. مؤكد أنك سمعت كثيرًا عن جبروت الحاكم بأمر الله، وما حملته شخصيته من تناقضات تمزج بين محبة العلم وقتل العلماء، والتقوى والصلاح مع قتل الصالحين، والعدل المثير للإعجاب والظلم المجاوز لكل الحدود، وتحريم الأفعال والأطعمة والأعمال فى أوقات، ثم التراجع عن ذلك وإباحة كل ما حرمه بالأمس. أدلة كثيرة تجدها فى كتب التاريخ على ما كان يعانيه الحاكم من اضطراب فى الشخصية، وذلك بعيدًا عن سعى بعض المؤرخين إلى تشويه صورته، بسبب تعصبه الدينى والمذهبى، الذى اضطر الكثير من المصريين حينها إلى الدخول فى الإسلام من ناحية، أو الاتجاه إلى التشيع، لمن ظل على تمسكه بمذهبه السنى، خوفًا من بطشه وجبروته.

مؤكد أنك قرأت أو سمعت الكثير عن جبروت الخليفة الفاطمى «الحاكم بأمر الله»، لكن هل سمعت عن جبروت «ست الملك»؟ تلك المرأة التى بلغت من القوة والدهاء حد القضاء على أشهر من وُصف بالجبروت فى تاريخ الحكم الفاطمى، وهو شقيقها «الحاكم». أدلة عديدة تجدها فى سيرة الرجل تؤشر إلى أنه عاش أسير مجموعة من الهلاوس، نتيجة ولعه بقراءة النجوم، مما جعله يعطى بلا حساب حين يتفاءل بطالعها، ويتكدر مزاجه ويبدأ فى التشكك فيمن حوله إذا وجد فيها ما يؤشر إلى سوء الطالع، فيتشاءم، وتسيطر عليه هلاوسه، ويبدأ فى سحق الناس بشتى الصور.

لم تكن «ست الملك» بعيدة عن هذه الحالة التى كانت تنتاب شقيقها الحاكم، كانت تراقب وتسمع عن أفعاله وتحس أن زوال الملك الفاطمى سيتم على يديه، بسبب أفعاله الشنيعة مع الرعية، ومع أقرب المقربين إليه، ولديها من الحكمة ما تدرك بها المآلات السيئة للبيت الفاطمى إذا واصل «الحاكم» أداءه على هذا النحو.

ذات يوم امتلكت الجرأة وواجهته قائلة: «يا أخى احذر أن يكون خراب هذا البيت على يديك». ارتج «الحاكم» وهو يسمع هذا الكلام، ففار وثار، وهاج وماج، وأسمع شقيقته أقبح الألفاظ، وهددها إن لم تتوقف، فسكتت. لم يكتف الحاكم بذلك، فقد ظل يستذكر كلامها فتهيج أعصابه، وصمم على إذلال شقيقته إلى أقصى مدى، فأرسل إليها يقول لها إن بعض أصحاب الأخبار أعلموه بأن سيرها «بطال»، وأنها تسمح للرجال بالدخول عليها وتمكنهم من نفسها. ارتعدت «ست الملك» وهى تسمع هذا الكلام وزلزلت زلزالًا كبيرًا، وعلمت أن شقيقها قاتلها ولا شك، وأنه يمهد للخطوة بهذا الكلام، وتيقنت من ذلك حين طلب منها السماح للقوابل «الدايات» للدخول عليها لاستبرائها، وإثبات عذريتها إن كانت بريئة. 

فى هذه اللحظة أدركت «ست الملك» أنها إما قاتلة شقيقها، أو مقتولة على يديه، وقد مالت إلى الخيار الأول. أخذت تفتش عن شريك لها فى الخوف من «الحاكم»، عن شخص يتهدده هو الآخر بالقتل حتى ترتب أمرها معه، ووجدت بغيتها فى «سيف الدولة ابن دواس»، وهو شيخ جليل من شيوخ تهامة، وكان «الحاكم» يريد قتله بالفعل، وحاول أكثر من مرة استدراجه إلى القصر ليقتله فيه بعيدًا عن قبيلته وعزوته، لكنه كان فطنًا لذلك، فلم يجب طلبه. وعندما عاتبه «الحاكم» ذات مرة على ذلك رد عليه «ابن دواس» بأنه يعلم أنه يريد استدراجه إلى القصر ليقتله، وأنه يفضل إن كان يريد قتله أن يفعلها فى بيته، وهو سط أبنائه، وإن كان لا يريد فليتركه فى حاله، ولا يدعوه إلى القصر، ويلتقيه فى المواكب أمام الناس.

أرسلت «ست الملك» إلى «ابن دواس» تطلب اللقاء معه، فلو شاء يأتيها متنكرًا، وإلا أتته هى متنكرة. وكان أن ذهبت إليه، والتقته، وبدأت حديثها معه بالإشارة إلى أنه يعلم أن «الحاكم» يريد قتله، وقد ثنى الرجل على كلامها، ثم أخبرته بأنه يريد قتلها هى الأخرى، وأنه لا مفر من أن يظفرا به قبل أن يظفر بهما، ووعدته إن نجحا فى ذلك أن تجعله مدبر أمر الدولة بعد أن تؤول الخلافة إلى ابن «الحاكم» صغير السن، ولإثبات حسن النية أغدقت عليه الكثير من الأموال، وأقطعته أراضى عديدة. وافق «ابن دواس» من حيث المبدأ، وسألها عن تفاصيل الخطة، طلبت منه إحضار عبدين يثق فيهما لينفذا المهمة حين يخرج الحاكم إلى الجبل كعادته، مختليًا بنفسه، مستطلعًا النجوم، وجهزت سكينين قاطعين، صنعهما لها خصيصًا أحد المغاربة، وكانا ذا نصلين حادين.

تحددت ساعة الصفر، وكمن العبدان فى قصر «ست الملك»، وكان موقعه أمام قصر «الحاكم»، وظلت تراقب المشهد من الشرفة، تباطأ «الحاكم» ليلتها فى الخروج، وكاد ألا يخرج بناء على رغبة أمه التى انقبض قلبها، وكان شديد الحب لها، فلما طلبت منه ألا يخرج استجاب لها، ودخل للنوم، وإن هى إلى ساعة حتى استيقظ، ولم يستطع النوم، وألحّت عليه عادته فى الخروج إلى الخلاء، فقام من سريره وخرج، وأبصرته «ست الملك»، فنادت العبدين وسلمتهما السكينين، وأعطت كل واحد منهما ألف دينار، وأمرتهما باللحاق بشقيقها لتنفيذ المهمة. وصل «الحاكم» إلى طريق القرافة، وصعد فوق قمة الجبل، وأخذ يحملق فى النجوم كعادته، وفى لحظة انقض عليه العبدان، وأوسعاه طعنًا، حتى لفظ أنفاسه، ثم حملا جثته وذهبا بها إلى سيدهما «ابن دواس»، أخذ الأخير العبدين والجثة، وذهبوا إلى «ست الملك»، فدفنتها فى قصرها، وطلبت منهم التكتم على الأمر، وأمرت الوزير باستدعاء نجل «الحاكم»، وكان خارج القاهرة، ثم أرسلت من يقبض عليه بمجرد دخوله. ظلت «ست الملك» تخفى الخبر لمدة أسبوع، حتى ترتب أمر نقل السلطة، ثم أعلنت وفاة شقيقها، وانتقال عهد الخلافة إلى ولده.

تم الأمر كما تريد المرأة الجبارة تمامًا، لكنها لم تكتف بذلك، فبمجرد استقرار الأمر قررت دفن سر المؤامرة التى حاكتها ضد شقيقها، فأرسلت إلى «ابن دواس» من يقتله، وقتلت العبدين أيضًا، وتخلصت بالقتل كذلك من كل الوزراء الذين عرفوا أمرها فى قتل أخيها. بعدها هدأت الأمور تمامًا.

لم تشعر «ست الملك» بأى ندم على ما فعلت، بل نظرت إلى نفسها كسيدة قادرة اختارتها الأقدار لتحافظ على «البيت الفاطمى» الذى كاد يخرب على يد الحاكم بأمر الله.