رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

غزة.. عزلة وحشية وبطولة قاسية

أكتب مقالى الأسبوعى فى جريدة «الدستور» ليل الجمعة فجر السبت. أكتب مقالى الأسبوعى هنا لينشر صباح الأحد. لكن ليل هذه الجمعة ٢٧ أكتوبر قد حل علينا بأنباء الاجتياح الإسرائيلى لغزة وقطع الإنترنت بعد قطع المياه والكهرباء والوقود والطعام، ومواصلة قصف مليونى إنسان أعزل. 

ليل مروع، كأن العالم قد تحطم فوق أكتافنا، وتناثر منه على الأرض فتات العقل والضمير، حتى أننى أتساءل أهذه هى البشرية التى كنا نكتب لأجلها؟ التى كنا نحلم لأجلها؟ أم أنه كوكب آخر، بربرى، وجنس آخر لا صلة لنا به؟ تقف غزة وحدها بين سبعة آلاف شهيد من بينهم ثلاثة آلاف طفل، الأمر الذى أكدته منظمة الصحة العالمية، كما دُمرت أربعون بالمائة من منازل غزة. وحتى نهاية ٢٤ أكتوبر، اليوم الثامن عشر من القصف البربرى، كانت إسرائيل قد ألقت على غزة أكثر من ١٢ ألف طن قنابل، بينما كانت قوة القنبلة التى ألقيت على ناجازاكى تسعة آلاف طن، أى أن الكيان الصهيونى ألقى على غزة ما يفوق قوة القنبلة التى ألقيت على ناجازاكى بمرة وثلث، وما يعادل ستين بالمائة من قوة قنبلة هيروشيما. 

فى ليل الجمعة أكتب المقال بصعوبة وأنا أتابع الأخبار حتى الثالثة فجر السبت، وأتسمع زحف الكيان فى الظلام على غزة، وأراها، تقف وحدها بين وحشية العزلة وقسوة البطولة، ولا شىء بين السماء والأرض سواها، وسوى عينيها. ورغم الأحزان التى تجرفنا على الأطفال الذين كانوا نائمين قبل القصف وظلوا نائمين إلى الأبد، إلا أن علينا أن نعانق القوة فى قاع الألم، وأن نحدق بوجه الصلابة ونطيل النظر إليه. فقد كسبت فلسطين من هجمة حماس فى السابع من أكتوبر بتوجيه ضربة زلزلت الكيان الصهيونى، وعرت حقيقة أنه نمر من ورق، حتى أنه يخفى ازدحام مطاراته بالمهاجرين من سكانه، واستقالات العديد من جنرالاته، واستعانته بالدعم العسكرى الأمريكى والبريطانى، وجددت غزة الحقيقة التاريخية أن بوسع الشعب أن يوجه أعنف الضربات للاحتلال بأصغر الأدوات والقدرات، وطرح الفلسطينيون فى العالم كله حقيقة أن إسرائيل تحتل بلادهم ولا تقبل بأى حلول سياسية، وأن ضربة السابع من أكتوبر كانت نتيجة الاحتلال، وقد صرح أمين عام الأمم المتحدة بذلك المعنى حين قال: «إن هجمات حماس لم تأت من فراغ.. وإن الفلسطينيين تعرضوا إلى احتلال خانق على مدى ٥٦ عامًا». واشتعلت فى معظم العواصم الأوروبية مظاهرات التأييد للحق الفلسطينى. 

وحين نحزن كثيرًا على عدد الشهداء فإن علينا أن نتذكر أن القتل تم مؤخرًا بالجملة، لكنه كان يتم من قبل يوميًا، ولم يكن يمر يوم من دون أن نسمع عن استشهاد ثلاثة أو أربعة فلسطينيين. كانت المجزرة بالقطاعى، ثم اتسعت. ومهما حاولت إسرائيل الآن، ومهما كبدت قطاع غزة، فإن ذلك لن يمحو هزيمتها فى السابع من أكتوبر. أتذكر بهذا الصدد قول الإمام على بن أبى طالب: «الصبر صبران، صبر على ما نكره، وصبر على ما نحب»، والصبر على ما نكرهه هو الصبر على الصراع وثمن الكفاح، أما الصبر على ما نحب فهو أن نصبر على الانتصار، وأن نعمل من أجله، وأن نعانق القوة فى قاع الضعف، ونرى العزيمة فى خضم كل الأحداث الأليمة، وأن نثق فى قدرة شعب يدافع عن بلاده ضد غزاة لا يدافعون إلا عن رواتبهم.