رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر رمانة الميزان فى صراعات المنطقة

سلطت الحرب بين إسرائيل وحماس مزيدًا من الضوء على دور مصر كقوة إقليمية.. وفي ظل العلاقات القديمة مع إسرائيل والحدود مع غزة، فإن موقف مصر يكتسب زخمًا جديدًا، كمفتاح لمصير أي لاجئين وتدفق مستمر للمساعدات لسكان القطاع المُحاصر، البالغ عددهم أكثر من مليوني نسمة، بعد أن قطعت إسرائيل الإمدادات الحيوية، ردًا على هجوم حماس في السابع من أكتوبر الحالي.. وقد جعلت الحرب بين إسرائيل وحماس مصر قِبلَة لكل من الغرب والشرق، باعتبار أن دور مصر حاسم في تحديد مصير اللاجئين وتقديم المساعدات لسكان غزة، دون أن تقبل صفقة لإيواء اللاجئين الفلسطينيين لاعتبارات سياسية وأمنية، تتعلق بالإبقاء على القضية الفلسطينية والحفاظ على الأمن القومي المصري، بالإضافة إلى أن هناك مجموعة من الاعتبارات المحلية والإقليمية التي تستبعد أي صفقة للاجئين، بعد أن تحدثت الحكومة الإسرائيلية مع نظرائها في العديد من البلدان، بشأن إيواء مصر مؤقتًا للفلسطينيين الفارين من العنف في غزة، واقترحت إسرائيل نقلهم إلى معسكرات في شبه جزيرة سيناءـ بتمويل من الأمم المتحدة والولايات المتحدةـ ومن ثم إعادتهم بمجرد انتهاء العمليات العسكرية، وهو ما لم تطرحه إسرائيل مباشرة على مصر، (وكان من الواضح أن الأمل من جانب إسرائيل والولايات المتحدة أن تقبل مصر حوافز اقتصادية، في وقت تعاني فيه من أزمة اقتصادية، للسماح لسكان غزة بالدخول إلى مصر، في حين أن الإجراءات قد ينتهي بها الأمر إلى أن تصبح عبئًا سياسيًا)، كما قالت ميريت مبروك، مديرة برنامج مصر في برنامج واشنطن.
ومع ذلك، رأى العديد من الاقتصاديين والمصرفيين والمستثمرين خلال الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي في المغرب، أن مصر من المرجح أن تحصل على بعض الدعم الاقتصادي، بغض النظر عن موقفها تجاه اللاجئين.. لقد ذكّرت الأزمة اللاعبين العالميين بوضع الدولة المصرية كمحور إقليمي، مما عزز فكرة أنها أكبر من أن تفشل، فمصر، التي توصلت إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي في ديسمبر الماضي، تجري بالفعل محادثات بشأن تعزيز برنامج الإصلاح الاقتصادي إلى أكثر من خمسة مليارات دولار بدلًا من ثلاثة مليارات دولار، ومن المحتمل أن يضغط المساهمون الرئيسيون في صندوق النقد الدولي، في الولايات المتحدة وأوروبا، على البنك لتخفيف متطلباته والمضي قدمًا في البرنامج والاستجابة لطلبات القاهرة، تقديرًا لأهميتها وتثمينًا لدورها الإقليمي، على الرغم من المشاكل الحالية التي تعترض وتيرة الإصلاحات الحالية، بفعل الأزمات العالمية والإقليمية المتكررة، كما قال ريكاردو فابياني، مدير مشروع شمال إفريقيا لدى مجموعة الأزمات.. وذلك أيضًا لأن الصراع الحالي يسلط الضوء على عدم الاستقرار المتزايد في جميع جوانب مصر، في ليبيا والسودان والآن في غزة، وهو ما يواجه الولايات المتحدة وأوروبا بالحاجة إلى ضمان (بقاء القاهرة شريكًا مستقرًا وموثوقًا في المنطقة) و(يستحق الدعم الخارجي).. وقد كانت هناك أدلة على هذا التركيز الدولي يوم السبت الماضي، عندما استضاف الرئيس عبدالفتاح السيسي (قمة القاهرة للسلام)، بحضور زعماء الشرق الأوسط وأوروبا.
كانت موجة الدبلوماسية الأخيرة، التي تركزت على القاهرة، بمثابة عودة إلى دور مصر التقليدي، الذي برز بشكل واضح في كل نقاش حول سياسات القوة في جميع أنحاء المنطقة، في النصف الأخير من القرن العشرين، إذ شهدت الأيام التي تلت شن حماس هجومها على إسرائيل، كثيرًا من التودد إلى الرئيس السيسي من قِبَل سلسلة من زعماء العالم.. وأكد الرئيس الأمريكي جو بايدن مجددًا، في مكالمة هاتفية مع الرئيس السيسي، على (الشراكة الاستراتيجية الدائمة) بين البلدين، وأشاد المستشار الزائر، أولاف شولتز، بالوحدة الألمانية المصرية في العمل لمنع (حريق) الشرق الأوسط.. كما التقى الرئيس الصيني، شي جين بينج، رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، في بكين.. وقال روبرت ساتلوف، المدير التنفيذي لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، إن الحرب (تسلط الضوء على الدور المهم الذي لعبته مصر دائمًا فيما يتعلق بالأمن في غزة وما حولها).
ولم يغب هذا عن الحكومات الأوروبية، التي أدركت أهمية مصر كمنتج إقليمي للغاز، بعد انلاع الحرب الروسية ـ الأوكرانية العام الماضي، وزار مسئولون أوروبيون مصر لتقييم إمكاناتها كمورد للغاز، لتحل محل بعض الإمدادات الروسية على الأقل.. وتسعى هذه الحكومات نفسها الآن إلى مغازلة السيسي لمساعدته في تخفيف الضغط على غزة، لكنه رفض أي اقتراح بأن تستضيف مصر لاجئين من غزة، واقترح بدلًا من ذلك على إسرائيل أن تستقبل الفلسطينيين في صحراء النقب، (يمكنهم نقل الفلسطينيين إلى هناك، حتى تنفذ إسرائيل خطتها المُعلنة بخصوص حماس).
تستضيف مصر بالفعل أكثر من تسعة ملايين لاجئ، ومهاجرين آخرين من دول، مثل سوريا والسودان واليمن وليبيا.. ويشكل فتح طريق أمام الفلسطينيين خطرًا أمنيًا جديدًا في شبه جزيرة سيناء، التي تمكن الجيش للتو من السيطرة على الإرهابيين وتطهيرها منهم.. ومن غير المُرجح أن تصبح مصر استثناءً إقليميًا، وتستقبل لاجئين، يشتبه الكثيرون في أنه قد لا يُسمح لهم بالعودة إلى غزة أبدًا.. وهذا من شأنه أن يُخاطر بأن يُنظر إليه في العالم العربي على أنه يسهل عملية نزوح جماعي أخرى، ويُشكل خيانة للقضية الفلسطينية التي تتبناها جميع الدول العربية علنًا.. وهنا يقول ساتلوف، من معهد واشنطن، إنه في حين يمكن لمصر استيعاب عدد معين من الناس، فإن العواقب السياسية المحلية ستكون (ضخمة).. و(تعتبر القيادة السياسية هذا خطًا أحمر لا ينبغي تجاوزه، وتُفضل مواجهة الضائقة المالية المتفاقمة التي تمر بها البلاد، بدلًا من قبول عدد كبير من اللاجئين).
لقد سبق لمصر أن حصلت على إعفاء من نصف ديونها البالغة 20.2 مليار دولار، المستحقة للولايات المتحدة وحلفائها في عام 1991ـ وهي واحدة من أكثر حالات تخفيف الديون سخاءً التي منحتها الدول الدائنةـ مقابل دعم التحالف المناهض للعراق خلال حرب الخليج، فقد أرادت الولايات المتحدةـ وقتهاـ مكافأة الرئيس حسني مبارك على دوره المحوري في حشد الدول العربية ضد صدام حسين، وتعويض مصر عن الخسائر المالية الفادحة في الحرب، كما أرسلت مصر قوات مسلحة للمشاركة.. لكن تكرار هذا السيناريو سيكون أمرًا صعبًا.. لكن الأمر ليس كذلك اليوم، لأسباب ليس أقلها، أن التزام مصر لن يكون قابلًا للمقارنة، لأن الأمر هذه المرة يتعلق بقضية هي أم القضايا في الشرق الأوسط، وعدم تصفيتها يُعد أمانة في رقاب الحكام العرب، ومصر بالأخص، ثم إن تهجير أهل القطاع يُعد تهديدًا للأمن القومي المصري، وخيانة للقضية.
الوضع الحالي في قطاع غزة، يتطلب من مصر القيام بدور وساطة غير مسبوق، بالإضافة إلى تصديها لإدخال المساعدات الإنسانية والإغاثية لسكان القطاع.. مصر ستحاول، في الوقت الحالي، القيام بدور بناء، وهذا هو قدرها دائمًا، وهو ما يُقدِّره العرب والغرب، ويدركون أنه لا يمكن لأحد القيام بهذا الدور غيرها، وهو ما أثبتته الأحداث، في خمس جولات سابقة من الصراع بين إسرائيل والفصائل في فلسطين، على مدى العشرين عامًا الأخيرة.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.