رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عندما ينقلب السحر على الساحر

هل تذكرون ما أشار إليه الرئيس عبد الفتاح السيسي في المؤتمر الصحفي الذي عقده الأربعاء الماضي مع المستشار الألماني أولاف شولتز في القاهرة، من أن إسرائيل لم تنجح خلال السنوات الماضية في السيطرة والحيلولة دون بناء قدرات عسكرية للجماعات والفصائل في فلسطين؟.. ما قاله الرئيس لم يكن تجنيًا على دولة الاحتلال الصهيوني، ولا هو إلصاق للتهم جزافًا لرئيس وزراء هذه الدولة، بنيامين نتنياهو، إذ أن استطلاعات الرأي في إسرائيل أظهرت أن الأغلبية تلوم نتنياهو، ليس فقط على الإخفاقات العسكرية، ولكن على (دعم) حماس، في المقام الأول، وأنه تجاهل ـ إلى حد كبير ـ الاستفزاز العسكري منها، منذ آخر توغل بري إسرائيلي كبير في عام 2014. 
واليوم، ومهما طال الوقت الذي يستغرقه الجيش الإسرائيلي لتحييد الجناح العسكري للجماعة الإسلامية في غزة، فإن الجزء الأكبر من الجسم السياسي في البلاد مضطر إلى أن يقف وراء زعيمه، في غزة على الأقل، لما أسموه سحق قدرة حماس على شن الجهاد، إلى جانب الكثير من البنية التحتية السياسية وشبه العسكرية التي تحكم من خلالها، كما يتوقع المحللون.. وعلى الرغم من إدراكهم الحاد للمخاطر المصاحبة، إلا أن قلة من التيار السائد في إسرائيل يعتقدون أن لديهم الكثير من الخيارات، نظرًا للأحداث الرهيبة التي وقعت في السابع من أكتوبر الجاري.
(لسنوات، اتخذت الحكومات المختلفة، بقيادة بنيامين نتنياهو، نهجا قسَّم السلطة بين قطاع غزة والضفة الغربية، مما أضعف موقف رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، بينما قام نتنياهو بخطوات تدعم حركة حماس)، كما كتب المراسل السياسي تال شنايدر في (تايمز أوف إسرائيل) الأسبوع الماضي.. كانت الفكرة هي منع عباس ـ أو أي شخص آخر في حكومة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية ـ من التقدم نحو إقامة دولة فلسطينية، كانت الفكرة هي منع عباس – أو أي شخص آخر في حكومة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية – من التقدم نحو إقامة دولة فلسطينية.. وهكذا، ووسط هذه المحاولة لإضعاف عباس، تمت ترقية حماس من مجرد جماعة إرهابية إلى منظمة، أجرت معها إسرائيل مفاوضات غير مباشرة عبر مصر، وسمح لها بتلقي دفعات نقدية من الخارج.. كما شاركت حماس في المناقشات حول زيادة عدد تصاريح العمل التي تمنحها إسرائيل للعمال في غزة، والتي تحافظ على تدفق الأموال إلى غزة، مما يعني الغذاء للعائلات والقدرة على شراء المنتجات الأساسية.. وقال مسؤولون إسرائيليون، إن هذه التصاريح، التي تسمح للعمال في غزة بالحصول على رواتب أعلى مما كانوا يحصلون عليه في القطاع، كانت أداة قوية للمساعدة في الحفاظ على الهدوء.
واتخذ ديمتري شومسكي، وهو كاتب عمود في صحيفة (هآرتس)، موقفًا مماثلًا، بحجة أن نتنياهو اتبع سياسة (الشلل الدبلوماسي)، من أجل تجنب المفاوضات مع الفلسطينيين حول حل الدولتين، وهو حل يرفضه بشدة اليمين المتطرف في البلاد.. ( إن هذه الاستراتيجية المعيبة حولت حماس، من جماعة إرهابية صغيرة إلى جيش فعَّال وقاتل مع قتلة متعطشين للدماء ذبحوا المدنيين الإسرائيليين الأبرياء بلا رحمة)، من وجهة نظر الكاتب الإسرائيلي.
نتنياهو شعبوي، ويقول البعض إنه من المبالغة القول إنه دعم حماس بنشاط، كاستراتيجية مخطط لها مسبقًا.. بدلًا من ذلك، وجد أنه من الملائم أن يكون هناك انقسام في السياسة الفلسطينية، وسمح لها بالازدهار لصالح حماس.. ومن المؤكد أن الحكومات الائتلافية المختلفة التي قادها في السنوات الأخيرة، كان لها تأثير في مساعدة الحركة.. التي وعلى الرغم من تصنيفها رسميًا كمنظمة إرهابية من قبل إسرائيل والولايات المتحدة والكثير من الغرب، إلا أن نتنياهو تجاهل إلى حد كبير الاستفزاز العسكري من الجماعة، منذ التوغل البري الإسرائيلي الضخم عام 2014، وسمح في الوقت نفسه بتدفق مبالغ ضخمة من الأموال إلى غزة، التي يقال إنها جاءت في حقائب من قطر، حيث تتمركز القيادة السياسية لحماس، وأيضًا عبر التجارة مع إسرائيل، التي ازدهرت في السنوات الأخيرة، حيث تم إصدار عشرات الآلاف من تصاريح العمل عبر الحدود لسكان غزة.. في معظم الأحيان، كانت السياسة الإسرائيلية هي التعامل مع السلطة الفلسطينية كعبء وحماس كرصيد.. عضو الكنيست اليميني المتطرف، بتسلئيل سموتريتش، الذي يشغل الآن منصب وزير المالية في الحكومة المتشددة وزعيم حزب الصهيونية الدينية، قال ذلك بنفسه عام 2015.
وعلى الرغم من حرصه في العلن، فقد نُقِلَ عن نتنياهو قوله، أوائل عام 2019، خلف الأبواب المغلقة، إن أولئك الذين يعارضون حل الدولتين يجب أن يدعموا تحويل الأموال إلى غزة، لأن الحفاظ على الفصل بين السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وحماس في غزة سيمنع إقامة دولة فلسطينية، كلماته هذه تتماشى مع السياسة التي نفذها.. ويشير آخرون إلى أسباب أكثر لفشل الاستخبارات في السابع من أكتوبر، لا سيما فضيحة الفساد المستمرة التي اتهم بها نتنياهو وشتت انتباهه، والمطالب ذات الدوافع الدينية لشركائه في الائتلاف اليميني المتطرف، والتي شهدت تحويل الموارد العسكرية إلى المستوطنات في الضفة الغربية.
ولدرء التهمة عن فسه، وفي الجلسة الافتتاحية المتوترة للجلسة الشتوية للكنيست يوم الاثنين فبل الماضي، سعى نتنياهو إلى حشد إسرلئيل، واصفًا حماس بأنها جزء من (محور الشر) الإيراني وتهديد وجودي.. لكنه أضاف أن هناك ((العديد من الأسئلة المحيطة بالكارثة التي حلت بنا قبل عشرة أيام)، ووعد بأنه سيتم التحقيق فيها (من كل جانب) بعد الانتهاء من المهمة العسكرية الحالية.. إلا أنه لا يوجد كثيرون في إسرائيل اليوم، يعتقدون أن رئيس الوزراء سيخرج من هذا البئر.. حتى إيهود باراك، رئيس الوزراء الأسبق وقائد الجيش الإسرائيلي، الذي خدم مع نتنياهو في وحدة كوماندوز أواخر ستينيات القرن العشرين، وصف هجوم السابع من أكتوبر بأنه (أكبر فشل في تاريخ إسرائيل)، وقال باراك لمجلة الإيكونوميست، إن استراتيجية نتنياهو تجاه حماس جاءت بنتائج عكسية.
وبعد..
فإن الهجوم المفاجئ والواسع النطاق، الذي شنته حماس ضد إسرائيل يوم السابع من أكتوبر،  له جذوره في تاريخ طويل من الصراع.. قد يبدو أنه يردد صدى هجمات سابقة، لكنه مختلف تمامًا في العديد من النواحي الرئيسية.. أولًا، إنه إلى حد بعيد الهجوم الأكثر تعقيدًا الذي دبرته حماس ضد إسرائيل.. ثانيا، لقد فاجأ إسرائيل على حين غرة، وفي كثير من النواحي، كانت غير مستعدة.. في الواقع، إنه يمثل أكبر فشل استخباراتي إسرائيلي منذ نصف قرن على الأقل.. وأخيرًا، في حين كان الإسرائيليون والعالم غاضبين بشكل مبرر من حماس، فإن غضب الملايين من الإسرائيليين، بمن فيهم العديد من المقربين من أجهزتهم الأمنية، كان موجهًا أيضًا إلى ما أعتبر سوء إدارة كارثي للأمن القومي الإسرائيلي من قبل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وإدارته.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.