رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فخ الممر الآمن.. حين هجّرت إسرائيل أهالى غزة ليلًا وقصفتهم صباحًا

فخ الممر الآمن
فخ الممر الآمن

فجر الحادي عشر من أكتوبر/ تشرين الجاري صدحت صفارات إنذار الاحتلال الإسرائيلي في شرق منطقة جباليا شمال قطاع غزة، مُعلنة بدء عملية الإخلاء القسري للأهالي في المنطقة، حتى لا يتم قصفهم في معركة "طوفان الأقصى" التي قادتها حركة حماس. اعتبر الأهالي وقتها أنه وعد بالأمان لعدم استهدافهم.

خرجت الحاجة عائشة، فلسطينية، بصحبة أولادها الثلاثة تنفيذًا للتحذير، واتجهت إلى مراكز الإيواء مع بضعة نازحين لم يكن زوجها منهم، إذ استشهد في الأيام الأولى للمعركة. سكنت في خيمة داخل مركز إيواء النصيرات جنوبي غزة، والذي لم يكن سوى فصل في مدرسة يعج بالنازحين.

غارات عنيفة وظروف إنسانية قاسية

الحياة غير آدمية داخل المركز، حسب وصف عائشة التي تبلغ من العمر ستين عامًا، لكنها ظنت أنها آمنة وفق تحذير الاحتلال لهم. لكن ظهر الخامس عشر من أكتوبر/ تشرين علمت عائشة، التي بات ابنها الأكبر في عداد الشهداء الآن، أن ذلك الوعد مزعوم إذ قصفت قوات الاحتلال مركز إيواء النصيرات الذي سكنته عائشة وأبناؤها.

منذ بداية الحرب وتتبع قوات الاحتلال منهجًا في تهجير الفلسطينيين من منازلهم شمالًا إلى مراكز إيواء غير آدمية جنوبًا بدعوى أنها آمنة بعيدة عن القصف، ثم تشن عليهم غارات عنيفة وتُسقط شهداء وجرحى من النازحين حتى أصبح لم يعد هناك مكان آمن في القطاع سواء داخل مراكز الإيواء أو خارجها.

قصف مراكز الإيواء - خاص الدستور

مراكز الإيواء في غزة هي مدارس منظمة الغوث «الأونروا»، وهي وكالة تتبع الأمم المتحدة لإغاثة الفلسطينيين، لديها 148 مركزًا موزعًا في المحافظات الخمسة، وهناك 64 مركز إيواء غير تابعة للأونروا. أُجبر 423 ألف شخص على الفرار من منازلهم نحو المخيمات منذ بدء معركة الطوفان وسط ظروف إنسانية قاسية لا تتوفر فيها أدنى مقومات الحياة.

يدلل على تلك المنهجية وصف الأمم المتحدة للأوامر الإسرائيلية بإخلاء شمال غزة بدعوى تدشين عمليات عسكرية بـ«النزوح الجماعي»، حيث تقوم بقصف تلك المراكز. وإلى الآن تم قصف 75 مركزًا وأصيب 100 نازح كانوا يحتمون في مراكز الإيواء واستشهد 8 آخرون، بينما فقدت الأونروا 16 شخصًا من موظفيها.

المصدر- منظمة الأونروا

عائشة: «لم يعد هناك أمان فى غزة.. الجنوب يُقصف والشمال أيضًا»

كان نجل عائشة أحد شهداء قصف إسرائيلي على مخيم النصيرات، والذي أودى بحياته هو و5 آخرون إلى جانب إصابة 3 كانوا يحتمون بالمدرسة، تقول: «بعدما نزحنا جنوبًا علمنا أن منزلنا في جباليا شمالًا قُصف وحين وصلنا إلى النصيرات قُصفت المخيمات أيضًا».

في 19 أكتوبر/ تشرين أعلنت وزارة الداخلية التي تديرها حماس عن أن 18 فلسطينيًا استشهدوا في سلسلة ضربات جوية إسرائيلية على مخيم جباليا للاجئين في شمال قطاع غزة.

تصف عائشة، لـ«الدستور»، وضع تلك المراكز بأنها عبارة عن مدارس، وكل 6 أسر أيًا كان تعدادهم يقطنون في فصل من فصول المدرسة، وبالكاد يحصلون على وجبة مكونة من خبز وزجاجة مياه على مدار يوم أو اثنين، وكلما نفد الغذاء والماء ظلوا جوعى لساعات طويلة. 

مراكز الإيواء - خاص الدستور

تقع أغلب مخيمات النازحين في مناطق: «الشاطئ، وجباليا، والبريج، والنصيرات، والمغازي، ودير البلح، وخان يونس ورفح»

ليس ذلك فحسب: «تنقطع إمدادات المياه ونظل أيامًا طويلة بدون استحمام، والطعام لا يكفي والنساء لا يحصلن على مستلزماتهن الخاصة، والأطفال ليس لديهم حليب، ونعيش بلا كهرباء ولا ماء أو أدنى متطلبات الحياة، وما زال القصف الإسرائيلي مستمرًا على المخيمات».

في 7 أكتوبر/ تشرين أعلنت حركة المقاومة الإسلامية «حماس» عن بدء معركة «طوفان الأقصى» ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي نتيجة الانتهاكات الأخيرة واستباحة الأقصى، أدت إلى استشهاد 4651 فلسطينيًا 40% منهم من الأطفال، وإصابة أكثر من 14 ألفًا و245 آخرين 70% منهم أطفالًا ونساءً، ومقتل ما لا يقل عن 1400 شخص من الجانب الإسرائيلي.

المصدر - وزارة الصحة في غزة

إنفوجراف الدستور

المتحدث باسم الأونروا: «القصف مستمر على مراكزنا»

يؤكد ذلك عدنان أبوحسنة، المتحدث باسم وكالة الأونروا، إذ إن المدنيين في مراكز الإيواء يتعرضون للقصف المستمر: «نحن أمام كارثة بسبب الطاقة الاستيعابية لمخيمات الإيواء مع استمرار عمليات النزوح من الشمال إلى الجنوب، فهناك عمليات إخلاء وتهجير قسري».

أبوحسنة يوضح لـ«الدستور» أنه تم قصف محطة المياه والكهرباء ومخبز، وقُطعت الإمدادات بشكل تام عن المخيمات التي تعج بالمدنيين، ورغم وضع الوكالة خطة لاستيعاب أكثر من 150 ألف فلسطيني إلا أن ما حدث لم يكن متوقعًا لأي حد.

«إذا استمر القصف الإسرائيلي على المخيمات سيكون الوضع كارثيًا»، يؤكد عدنان أن النازحين يشربون مياهًا ملوثة وما تبقى من طعام لن يكفي سوى يومين فقط ومن بعدها سيموت النازحون، فضلًا عن عدم وجود علاج للجرحى بسبب استمرار القصف وانقطاع موارد الحياة.

نحو مليون شخص داخل القطاع يعانون عدم وجود مكان آمن للذهاب إليه، وفق تقديرات منظمة اليونيسف، بينما آلاف غيرهم نزحوا مجبرين للاحتماء داخل مدارس الأونروا.

عدنان أبو حسنة

شريفة: «9 أيام بلا كهرباء وماء ثم قصفونا»

ذلك ما تعانيه شريفة موسى، فلسطينية، إذ إن هناك انقطاعًا في الماء والكهرباء منذ 9 أيام داخل مركز إيواء المغازي جنوب غزة، بعدما نزحت من مركز الحضري في الشمال: «نعيش داخل فصول مكتظة وتنقصنا كل مقومات الحياة، لا نتحمم لعدم توافر المياه، كلها بواقي من المساجد، ونتقاسم الطعام».

كانت تتحمل شريفة تلك الظروف غير الإنسانية بدعوى أن الجنوب بعيد عن القصف، حتى فوجئت بقصف عنيف من الطيران الإسرائيلي استهدف مخيم المغازي: «ما كنا وقتها نعرف أين نروح الشمال يُقصف والجنوب أيضًا».

القوات الإسرائيلية واصلت قصفها خان يونس والمناطق الجنوبية رغم توجيهاتها لسكان غزة بالتحرك جنوبًا

المصدر-  الأونروا

تقول لـ«الدستور»: «الجرحى يومها كانوا في كل مكان، والمستشفيات خارج الخدمة، والصيدليات القريبة من مراكز الإيواء تفتح ساعتين فقط في اليوم خوفًا من القصف، رضينا بتلك الحياة غير الآدمية ورغم ذلك نُقتل ونُقصف يوميًا».

في 18 أكتوبر/ تشرين أسفر قصف إسرائيلي استهدف مدرسة للأونروا بمخيم المغازي في قطاع غزة عن استشهاد 6 نازحين وإصابة العشرات وفق بيان الأمم المتحدة وقتها.

مراكز الإيواء - خاص الدستور

شبكة لاجئى فلسطين: «مراكز الإيواء أصبحت مرعبة»

رصدت شبكة مناصرة لاجئي فلسطين (غير حكومية) تلك الأوضاع غير الإنسانية التي يعيشها النازحون داخل مراكز الإيواء بدون ماء أو كهرباء أو مواد تموينية، فيتم الاعتماد على الاستيراد اليومي بسبب نفاد المخزون، وفق هاني جودة منسق الشبكة.

يقول جودة، لـ«الدستور»، إن المخزون الاستراتيجي لوكالة «الغوث» التي ترعى مراكز الإيواء نفد، ولا توجد صوامع كافية للقمح أو أماكن مخصصة للتخزين، إلى جانب نفاد مخزون المحال التجارية؛ لذلك يعيش النازحون على الإيراد اليومي ويتقاسمون «اللقمة» الواحدة، إلى جانب نقص المياه وانتشار القمامة.

انتشار القمامة في مراكز الإيواء - خاص الدستور

كل المدنيين النازحين في مراكز الإيواء عُزل، وفق جودة، والآن لا يستطيعون الاحتماء في مراكز الإيواء؛ لأن معظم هذه المراكز تقع في المناطق الخطرة والحدودية والتي أصبحت مرعبة، لذلك نطالب بوقف إطلاق النار والإعلان عن هدنة ودخول المساعدات دائمًا.

يوضح منسق الشبكة أن وكالة الغوث توزع بعض الأطعمة المعلبة، وفي وقت ما كان هناك خبز يتم توزيع عدد من الأرغفة على كل أسرة، حتى تم قصف بعض المخابز القريبة من مراكز الإيواء ليقف إمداد الخبز للنازحين. 

منذ 7 أكتوبر/ تشرين قصف الاحتلال الإسرائيلي 5 مخابز تخدم مراكز الإيواء أدت إلى استشهاد العشرات الذين كانوا يصطفون للحصول على قوت يومهم، إذ تتعمد قصف محيط المخابز في أثناء اصطفاف المواطنين بهدف إيقاع أكبر قدر من الضحايا.

المصدر- المكتب الإعلامي الحكومي في غزة

هاني جودة

والدة شهاب: «كان بده الخبز.. استشهد أمام المخبز»

كان شهاب جبل، 26 عامًا، أحد شهداء المخابز، إذ تعرض لقصف من طيران الاحتلال الإسرائيلي في أثناء وقوفه في صف مخبز تابع لمركز إيواء النصيرات جنوب غزة، وكانت والدته وأشقاؤه ينتظرونه في المخيم إلا أنه لم يعد.

يخدم مخبز النصيرات 80 ألف لاجئ وقصف المخبز في صباح 18 أكتوبر/ تشرين بينما كان العاملون يجهزون الخبز من الطحين الشحيح لصفوف النازحين.

توضح والدته خديجة، لـ«الدستور»، أنهم نزحوا من شمال القطاع نتيجة تحذيرات من الاحتلال الإسرائيلي بأن هناك عمليات عسكرية، واتجهوا إلى الجنوب في مخيم النصيرات التابع لمراكز إيواء الأونروا، وعاشوا طوال فترة الحرب بدون كهرباء أو سلع غذائية بسبب نفادها في المحال.

تقول: «يحصل كل فرد على ربطة خبز واحدة بعد وقوف أكثر من 7 ساعات، وإذا نفد الخبز دون الحصول عليه يعني يومًا بدون طعام. أنا روحت ألملم جسد ابني من أمام المخبز، كان بده فقط الخبز وأن يأتي لنا بأي طعام، منذ يومين لم نتذوق شيئًا ونعيش على الإمدادات».

نازحون في مراكز الإيواء - وكالة وفا الفلسطينية 

مبادرون بالخير: «1000 مريض بمراكز الإيواء بلا علاج»

دفعت تلك الأوضاع غير الآدمية في مراكز إيواء النازحين بعض المبادرات الخيرية لإمدادهم بالمعونات من الغذاء والماء، منها تجمع «مبادرون بالخير» (مبادرة خيرية غير حكومية تعمل في رفح)، ينشط عمل التجمع في الحروب والأزمات مثل الآن لذلك قدم بعض الإمدادت الغذائية لمراكز الإيواء، وفق هارون المدلل، منسق «مبادرون بالخير».

يقول لـ«الدستور»: «نقدم الطعام لآلاف النازحين ولكن نعمل بمفردنا دون جهود دولية أو مجتمعية، وبالتأكيد قدرتنا لا تستوعب حجم ما نتعرض له، فالمراكز تمتلئ عن بكرة أبيها وكل مركز يضم 2000 و2500 نازح، وقصف الطيران الإسرائيلي نحو 5 منهم منذ بدء معركة الطوفان».

هارون المدلل

هناك 1000 مريض في مراكز الإيواء ما بين السرطان والكلى توقفوا عن تلقي العلاج، حسب المدلل: «نحاول توفير الدواء لهم لكن الصيدليات تُقصف أيضًا في الجنوب، حتى أصبح الوضع صعبًا والموارد شحيحة من الماء والكهرباء».

لم يعد الجنوب منطقة آمنة عن الشمال في غزة، فقد استشهد نجل عائشة بعدما نزح بأمه وأشقائه نحو الجنوب، بينما لم تعد الكهرباء والماء لمخيم شريفة والنازحين معها، فيما لم ترسل خديجة أبناءها لجلب الخبز لأنهم يعودون جثثًا.