رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هواتف الشهداء فى غزة

أشعر كأننى وحدى فى غزة، وحدى عندما فاجأ القصف مرضى مستشفى المعمدانى، فانهالت عليهم القنابل بدلًا من الدواء، كأننى كل واحد منهم على حدة، وكل طبيب، وكأننى الملاءات البيضاء التى تشربت الدماء حتى ارتوت، وانكسرت وحدى مثل أنابيب المحاليل التى تحطمت. وحدى، لا يد، ولا صوت، ولا التفاتة، أمر بعينى على صفوف جثامين الأطفال الشهداء الخمسمائة وقد تراصت على الأرض، وحدى، كأننى الصبى الذى ودع بالأمس والده شهيدًا وبعد ساعات رقد هو الآخر شهيدًا. 

كأننى هناك، أتلقى بمفردى كل زخات الرصاص، ووحدى أهرول من بيت إلى بيت، ومن دمع إلى دمع، وحدى، أنزف ولا يضمّد جراحى أحد، أصرخ ولا يهب لنجدتى شخص، أتحامل على نفسى وأنهض، أهرول من مقاومة إلى مقاومة، أتلقى الضربات، وأقيم الجدران التى توشك على الانهيار. 

وحدى أجفف دموع امرأة عجوز، أُسعف الجرحى، وحدى هناك. وما من صوت يشد أزرى، أنزع الشظايا من لحمى وأتقدم، كأننى الأم التى بكت وصرخت لأن أطفالها الثلاثة ماتوا وهم جوعى، تبكى لأنهم لم يأكلوا شيئًا قبل الوداع. 

أثب من بيت إلى آخر، كأننى تلك الأسرة التى دُفن أفرادها الخمسة، الوالدان وأطفالهم الثلاثة جميعًا، فى كفن واحد، لأن الأكفان لا تكفى لكل الشهداء. وحدى أنقش فى ذاكرتى إلى الأبد كل اسم من الأسماء الخمسة المكتوبة على القماش الأبيض. 

وحدى، وكأن فلسطين كلها محمية فى بيتى، بين جدران منزلى، بين أوراقى وذكرياتى، ومعلقة على الجدار مع صور أبى وأمى، وأنا هناك أموت وأبعث تحت القصف كل دقيقة، أقاتل فى حصار الجوع والعطش. عيناى لطائرات السماء وأذنى لقصف القنابل وأنفاسى لدخان الحرائق. وفلسطين عندى، تعيش فى قلق، وتنهض، تمشى تغرس أشجارها بمحاذاة الجدران، تحفر نهرًا فى الأرض، تفتح سماء. وأنا هناك، أترنح على هدى دعائها، وحدى ولا أحد، سلاحى معى، أعيش كل لحظة بين الاستشهاد والعناد، كأننى آخر أنفاس الحياة، أول أنفاس الميلاد، أمشى يغطينى ركام البيوت، ويطوقنى بكاء طفل. أتقدم وأرى على حافة الرصيف كف طفلة بترت عن بدنها، ملقاة وحدها، مكتوب على راحتها: «إذا لم تكتب لى النجاة فهذا اسمى آية عبدالرحمن ١٢ سنة». 

وحدى كأننى كف الصبية، كأننى كلماتها القليلة، كأننى عيناها ساعة الانغلاق. أحتمى بنصف جدار، وألمح من حولى الجثامين التى لفوها على عجل فى أكفان، وأسمع من داخل الأكفان رنين هواتف محمولة دفنت مع أصحابها فى جيوبهم، أو بين أياديهم. أنصت إلى رنين الهواتف متصلًا يخترق صمت الغياب الأبدى نحو عالم آخر. شخص ما يتصل ليطمئن على والده، فتى يود أن يسمع صوت محبوبته، طفل يشتاق إلى صوت أبيه. تواصل الهواتف رنينها المتقطع فى صمت الغياب، ترن إلى العالم الآخر، وأشعر وحدى بتلك المحاولة للاتصال بعالم آخر، وأكاد أوقن أننى ذلك الرنين فى غياب مهول. 

وحدى، وكأننى كل ذلك الصمت الشاسع وكل تلك الحرائق، والقنابل. هدنى التعب، وسقطت على الأرض، فتقدمت فلسطين كلها ترفعنى، توقف نزيفى، ثم تمضى وحدها فى الشوارع، كل ما تلمسه من تراب يصبح سلاحًا، وكل ما تنظر إليه فى الهواء يصبح طائرة، وكل أنفاسها لهب، تقاتل بعينيها، وبأشجارها، تنصرها الريح، والموج فى النهر، طين الأرض، ونور القمر السارى فى الزهر. ورد. وأنا داخل بيتى، محمى بين جدرانى، وكأن فلسطين هناك وحدها، أصيح عليها فتلتفت إلىّ من بعيد، تلوح بيدها وتهتف: لا تخش شيئًا أنا أقوى مما تظن. وتمضى وحدها هناك، ومن حولها ملايين الأعناق والعيون مرفوعة إليها.