رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حتى يكون موقفنا كموقف الرئيس

في العادة يختلف الموقف الشعبي عن الموقف الرسمي بحيال الأحداث الجسام، ولكن الموقفين المختلفين لا يعنيان انشقاقا بين منصة الحكم والمواطنين.. إنما يعنيان أن كل موقف يعبر عن نوع عاطفة الفريق الذي يتبناه، فشعبنا المصري، مثلا، يكون بحرا صاخب الأمواج بحيال ما يجري في فلسطين من الجرائم على أيدي الغاصب الإسرائيلي، ولكن الدولة المصرية، ممثلة في قيادتها، تكون كالنيل الهادئ، ولو كانت دواخلها تغلي غليانا، فعاطفتها قرارات رشيدة لا كلمات حماسية كالشعب، وقراراتها يجب أن تتوخى الحفاظ على البلد والناس، هكذا إحساسها العالي بالمسئولية، وهذا لا يشير إلى بيعها القضية، ولا مثل هذه الأقاويل الجوفاء التي غالبا ما يصدح بها مثيرو الفتن المتشابهون وإن تغايرت خلفياتهم ومراجعهم، ولكن يشير إلى تقدير دقيق للأمور، لا يورطنا فيما قد يزعزع أمننا القومي، وفيما قد يكلفنا الأرض والعرض والدماء، وفيما قد يزيد المشكلة تعقيدا، على صعيد الصراع العربي الإسرائيلي، ولا يحلها بالمرة، على عكس التصور الشعبي الذي يظن أن اتحادنا المطلق مع أقاربنا أبناء الأقصى، بما فيه إمدادهم بالبشر والسلاح، لا مجرد المساعدات الإنسانية، في أوقات صراعهم الداخلي اللاهب، هو العمل الثمين المفيد، وهو مكمن خضوع أعدائنا المشتركين لمطالبنا..  

مصر دولة محورية مؤثرة، ومثلما قال البريطانيون من قبل: "إذا عطست مصر أصيب العالم بالإنفلونزا!"، هذه رتبة بلادنا لدى الأوروبيين، وهذه حقيقة ثقلنا بين البلاد كافة، يحمِّلنا الوصف حملا يقصم الظهر في التريث لا التسرع، والتعقل لا الاندفاع، وفي قراءة المشاهد الجارية كلها قراءة متأنية حكيمة، تكشف ما بين السطور، وتستيقن دلالته، ولا تكتفي بمطالعة السطور الظاهرة التي لا تعكس كامل الحقيقة بتة!

سمعت خطاب الرئيس في احتفالية تخرج دفعات جديدة من طلاب الأكاديمية العسكرية المصرية والكليات العسكرية عموما، الاحتفالية التي تزامنت مع الذكرى الخمسين لانتصارنا الأكتوبري المجيد، وقد حوت عروضا عسكرية بحتة وأخرى عسكرية فنية، وكانت، في المجمل، واحدة من احتفالياتنا القومية المهيبة والبديعة والمطمئنة، قال الرئيس، بشأن الأحداث الفظيعة الحاصلة حاليا في غزة وما حولها، كلمة أراها الأجدر بالاتباع، قال، ما فحواه، إن السلام هو خيارنا الاستراتيجي، وإن عدم تخلينا عن الأشقاء لا يكون بأن نتوه عن أماننا الوطني الذي بذلنا جهودا مضنية لخلقه فننجر خلف ويل واضح في قلبه ويل مضاعف، بل يكون بأن نحمي حدودنا المتعرضة للأخطار، وأن نتدخل بين الطرفين المتطاحنين تدخلا مقبولا ينقذ الأمل في تسوية الأوضاع، ولا يغرقه أكثر، ويرعى حرمات النساء والأطفال والمدنيين وكبار السن، كذلك بألا ننسى معركتنا الخاصة الكبرى بتركيزنا المفرط على معارك جيراننا ومعارك البعيدين عنا، مهما كبرت أم صغرت، معركتنا التي هي سعينا الدءوب إلى التنمية والبناء والتعاون المثمر مع الآخرين ودحر الإرهاب، هذه المعركة بذاتها تساوي كرامتنا الغالية التي لا نفرط في ظل واحد من ظلالها.. (ا.ه)
إن النخب المصرية والطليعيين المصريين يجب أن يلعبوا دورا متزنا داعما لاتزان القيادة، في ظروف كمثل هذه الظروف، ولا يجب أن ينساقوا وراء رغبات العوام الغوغائية اللا محسوبة، هذا الدور هو الطبيعي، وليس الدور الآخر التهييجي الغافل الذي يظنه بعض هؤلاء هو الدور النابه المحتوم!
أستعجب في الحقيقة من صراخ كثير من الواعين، أو من نخطئ فننسبهم إلى الوعي، صراخهم الذي يضعنا في مواضع مقلقة نحن في غنى تام عنها، وليتهم يصرخون الصراخ نفسه من فرط خوفهم على مصائرنا إذا زج بنا زاج أرعن في معارك خائبة، ليس من الصواب أن ندخلها مغامرين بحاضرنا ومستقبلنا..
مصر مع فلسطين طبعا، معها بصدق عظيم، لكن موقف شعبها يجب أن يكون كموقف الرئيس، أي تأييد الحياة المضمونة التي يحققها السلام العادل الشامل، عن طريق التفاوض المتكافئ النزيه، والإصرار على رفض الموت الأكيد الذي يسببه إشعال المنطقة بالحرب!