رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى مديح العامية المصرية

لهجتنا العامية، ولنقل لغتنا أيضًا فاللفظان صحيحان، من أجمل العاميات وأوضحها في العالم العربي، العرب يشهدون بذلك، ويقلدون ألسنتنا ولا نقلد ألسنتهم، ويكبرون منجزنا الشعري العظيم الذي أنتجه رائعون معروفون مهما بعدت أزمنتهم أو قربت وجهلهم الجاهلون: فؤاد حداد، صلاح جاهين، عبدالرحمن الأبنودي، عبدالرحيم منصور، سيد حجاب، أحمد فؤاد نجم، فؤاد قاعود.
القائمة طويلة طبعًا، لكن أسماء هؤلاء تفي بالغرض، وما الغرض سوى إيضاح آثارهم الخالدة في الثقافة المصرية والعربية؛ لقد اختاروا اللهجة الدارجة لكنهم نفذوا من خلالها إلى عقول عتاة اللغة العربية وقلوبهم، وضعوا لها القواعد (حتى كتابة العامية لها قواعدها التي نظر لها المنظرون العارفون)، وصنعوا بلاغتها الخاصة، وحلقوا بمجازها الآسر في الفضاءات.. لم يقع واحد منهم في أسر الآخر مع ذلك.. كل صوت بقي منفردًا بمزايا يملكها وحده، والجماهير هي الرابحة، جماهير الشعر وجماهير الأغاني، وبقيت جماعة العميان التى رفضت العامية في عماها، بل زادت عمى، إذ رأت العامية حربًا على الفصحى المقدسة- لغة القرآن الكريم!
نعم للأسف، وهذا لب الموضوع، لم يفلح التعليم في جعل كثيرين من حاملي الشهادات العليا، بل الأساتذة الجامعيين في أقسام اللغة العربية بالذات، يتخلصون من المقارنة بين العامية والفصحى، ومن ربط العامية بالشارع والحارة والمطعم والمقهى وعوام الناس، كأن الأمر هكذا معيب، وربط الفصحى بالقرآن، وهو الربط الخطير الذي كان يحتاج منهم إلى أناة وحكمة؛ لأن المخطئ في علم البيان اللغوي، مثلًا، على هذا النحو سيكون ملامًا لا محالة لأنه كالمخطئ في التلاوة القرآنية أو ما شابه.
لا ربط العامية بالواقع البسيط يدنسها، ولا ربط الفصحى بالقرآن المجيد يقدسها؛ فالعامية التي تستمد طاقتها من الهوامش متن هائل في العمق، وأما الفصحى فتثبت الرديء كما تثبت الجيد، ولا يمكن اعتبارها فرقانًا لأنها ليست كالفرقان في تجلياتها، بل لماذا يراد للغة أن تكون كذلك أصلًا؟!
كان الواجب أن يعترف الجميع بالعامية، يحكمون على إبداعاتها حكمًا نقديًا وحسب، هذا جيد وهذا ردىء، والشرط أن يكون الحكم موضوعيًا، وأن يحترموها كاحترامهم للفصحى معتزين برموزها كاعتزازهم برموز أختها، وألا يفرقوا بين أختين، أرادت إحداهما أن تنعتق من الفصاحة المتكلفة وتتكلم كلامًا عاديًا يفهمه خلق الله كلهم.
لقد كان علينا من البداية، بعد أن سبحت مراكب المذكورين السابقين، وغيرهم، في بحور الكتابة متصاخبة الأمواج، بعاميتهم المفضلة، أن نهتم بهم اهتمامًا جوهريًا يوازي اهتمامنا بمن صحبوا الفصحى للسباحة في البحور نفسها، لأن الفريقين أرادا الوصول إلى الشاطئ، ولأنهما وصلا فعليًا إليه، والمفاجأة أن الفريقين تعادلا على عكس ظن الأغبياء، كما تفوق فريق العامية في بعض الجولات، ولكننا سكتنا سكوتًا مريبًا إلى أن تاهت الحقيقة أو كادت.