رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ذكريات المدرسة فى يوم المعلم

فى اليوم العالمى للاحتفال بالمعلم، ٥ أكتوبر، أتذكر عددًا غير قليل من المدرسين الذين علمونى، فى مقدمتهم الشيخ دسوقى، معلم اللغة العربية، الذى لم أره عابسًا قط. كان طويلًا عريض الكتفين، يدخل إلى الفصل بجبة وقفطان كأنه طائر يضرب الهواء من حوله بجناحيه. كنا فى الإعدادية نحفظ قصيدة الخنساء ترثى أخاها. وأذكر أنه طلب من زميلنا أنور أن ينهض ليسمع القصيدة، فانتفض أنور واقفًا بحماسة مفتعلة يهتف: «يا لهوى عليه ولهو أمى.. أيصبح فى التراب وفيه يمسى»! ودهش الشيخ دسوقى ثم قهقه قائلًا وهو يلوح بيده: «الخنساء قالت يا لهوى؟ ده فين ده؟ فى كتاب أبلة نظيرة؟!». ورد أنور راسمًا البراءة على وجهه: «لا يا أفندم فى الكتاب عندنا». صاح الشيخ دسوقى: «فى الكتاب مكتوب يا لهفى عليه.. مش يا لهوى عليه.. لهوى دى لما جوز خالتك يخش عليكم بكيلو فاكهة». والشيخ دسوقى أول من لفت نظرى إلى ما قال عنه «مرجحة اللغة»، وأوضح ذلك قائلًا: «كأن تقول ذهبت إلى مصطفى فى بيته، فلما ذهبت إلى مصطفى قلت له..»، وأضاف: «يعنى رايح جاى فى نفس المعنى». أتذكر أيضًا الأستاذ منير، المسيحى، الأنيق، الذى لا يدخل الفصل إلا ويفوح منه العطر، هو الذى جعلنا نحب اللغة الإنجليزية بحضوره وأدبه الجم. 

فى المبتديان الثانوية لم يسعدنا الحظ بمدرس لغة فرنسية طيب، وكان لدينا زميل مهرج اسمه على إسماعيل، فكنا ما إن تبدأ الحصة حتى نغمز له فيقع من على طرف الدكة على الأرض، وننهض جميعًا مفزوعين ونصيح: «على يا بيه.. على.. عنده القلب»! ونخرج به إلى السطوح ليشم الهواء حتى يدق الجرس معلنًا انتهاء وقت الحصة. فى ذلك العام رسبنا جميعًا فى اللغة الفرنسية. بانتهاء الدراسة الثانوية سافرت إلى موسكو لاستكمال تعليمى، وتخيلت أن المعلمين من هذا النوع الطيب سيختفون من حياتى. وهناك أقمنا فى بيت طلاب ندرس فيه ونتلقى فيه أيضًا الحصص، وكانت الشهور الأولى قاسية والبرد قارس، فكنت أنام ولا أحضر الحصص الأولى. فسألتنى المعلمة نينا بتروفنا: «لماذا تتخلف عن الحضور؟». صارحتها: «البرد شديد ولا أقوى على النهوض من تحت الغطاء»، وإذا بهذه المعلمة العجوز الرائعة تأتى إلى سريرى فى حجرة نومنا وتهز كتفى برفق قائلة: «استيقظ يا أحمد بعد ربع الساعة تبدأ الدروس. استيقظ لتلحق». لا أنسى أبدًا حنانها. فى الجامعة كانت واحدة من المعلمات شابة تُدعى تاتيانا، نطقت أمامها ذات مرة بكلمة لم أكن أعرف معناها بدقة سمعتها من الشبان الروس، فقالت لى: «يا أحمد لا توسخ اللغة بكلمات مبتذلة»، وكانت تلك المرة الأولى التى أنتبه فيها إلى أن اللغة كائن جميل يجب ألا نمسه بعبارات سوقية. أذكر بالعرفان كل أولئك المعلمين وغيرهم. وبهذا الصدد نشرت اليونسكو مؤخرًا أن العالم سوف يحتاج إلى أربعة وأربعين مليون معلم بحلول عام ٢٠٣٠، ليأخذوا بيد الصغار إلى الفهم والفن والفكر والعلوم، إلا أن أوضاع المعلمين فى العالم ليست مبهجة، ولم تتحسن كثيرًا منذ أن قال أنطون تشيخوف إن: «المعلمين عندنا يتضورون جوعًا، على روسيا أن توفر لهم حياة طيبة، لأن بلدنا قد ينهار إذا لم يحصل الناس على تعليم..». كان ذلك منذ قرن تقريبًا، ومع ذلك لم تتبدل كثيرًا أوضاع حملة منارة العلم، ومن الجميل بالطبع أن نكرر قولنا: «كاد المعلم أن يكون رسولًا»، لكن الأحسن والأنفع أن يحصل المعلم على راتب يكفل له حياة عزيزة فلا تخبو قدرته بكرامة مصونة على نقل العلم إلى الأجيال الجديدة.