رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المحاربون بالقلم.. أدباء مجندون: شهدنا المعجزات وحكايات الفدائيين تنتظر من يرويها

المحاربون بالقلم
المحاربون بالقلم

كانوا هناك.. حملوا أرواحهم على أكفهم وسبقتهم الأمنيات.. قابلوا العدو ودكّوا حصونه.. ووقفوا بقوة الرجال أمام مدرعاته، وراحوا بأجسادهم يدفعون الحديد حتى تسنى لهم المراد، وحملوا على عاتقهم مهمة الوقوف يدًا واحدة أمام الغزاة، فسطروا بطولاتهم بدمائهم على أرض المعركة، وكان الله والملائكة وشعار «الله أكبر» يزلزلون القلوب ويرعبون الأبدان الغريبة، حتى أصبحت أرض مصر حرة.

ومن بين المحاربين، كان هناك المهندس والأسطى والفنان والمقاتل والطبيب والفلاح، ومن بين هؤلاء كان الشاعر والقاص والروائى، وفى السطور التالية يتحدث ٦ أدباء، ممن كان لهم شرف المشاركة فى معارك النصر، عن تلك الأيام المجيدة، فى ذكرى احتفال المصريين باليوبيل الذهبى لانتصارات أكتوبر.

 

حسنين السيد:خدمت 8 سنوات وشاركت فى إخلاء «شهداء وجرحى من الذهب»

ظل الشاعر والمقاتل حسنين السيد فى الخدمة لـ٨ سنوات كاملة، وكان يعمل على إخلاء الجرحى قبل حرب أكتوبر وأثناءها، وكتب عن الحرب ديوانه «أنشودة العطش»، بالإضافة إلى العديد من القصص والحكايات.

وعن مشاركته فى الحرب، قال: «فى البداية فإن حرب أكتوبر لم تكن مفاجأة لهذا المجتمع؛ لأن الجموع كانت تشعر أن تلك الأوضاع تحت نِير الهزيمة الطارئة لن تدوم؛ وأن يوم النصر آتٍ لا محالة؛ وكانت أيام أكتوبر وما تحقق فى الساعات الأولى منها بمثابة التأكيد أن كرامة الشعب المصرى فوق كل مؤامرات الغرب لإخضاع هذا الشعب الأصيل، صانع الحضارة منذ فجر التاريخ».

وأضاف: «أسعدتنى الأقدار بأن أعيش أيام حرب الاستنزاف، وعملت أثناء فترة تجنيدى التى امتدت لثمانى سنوات، ملحقًا على سرب الهليكوبتر بقاعدة ألماظة الجوية؛ للمشاركة والمساعدة فى عمليات إخلاء الجرحى والشهداء من المواقع التى أصابها الضرر بعد القصف الإسرائيلى لبعض المواقع داخل العُمق المصرى وقرى الدلتا والصعيد».

واستطرد: «كانت مشاركتى فى عمليات الإخلاء للجرحى والشهداء بعد قصف مخازن الإمداد الفنى بالخانكة صبيحة يوم ١٣ يناير ١٩٧٠؛ وكانت تلك هى أولى مشاهداتى الحياتية لمشاهد الموت الجماعى فى عنابر وورش الإمدادات الفنية، وعندما أخذتنى المفاجأة إلى ما يشبه الدوار، والتفكير فى مصائر هؤلاء الشهداء والجرحى، كانت صرخة وزغدة فى كتفى من الرقيب على عامر؛ الذى يشاركنى فى عملية الإخلاء، يقول خلالها: لا وقت للرومانسية يا شاعر!».

وأردف: «تنبهت على ما يشبه المعجزة وهى أننى أحمل على ظهرى عددًا من الجرحى أو الشهداء ممن يزيدون على وزنى بثلات مرات أو أكثر؛ وكنت أجرى مسرعًا- بما أحمله على كتفى، إضافة إلى السلاح والذخيرة- بين نفق طويل من النيران وصناديق القنابل والذخيرة!، وكان الإحساس بالمسئولية تجاه كرامة الإنسان والوطن هو ما يصنع الحافز للصمود والمجابهة.. وكانت تلك الذكريات الجميلة- برغم ظلال الأحزان التى تغلفها- لتبقى مصرنا المحروسة ولتنتصر بقلوب أبنائها العظماء الشرفاء».

وواصل: «ستظل حرب أكتوبر شاهدة على صلابة وشهامة وشجاعة ووطنية المصرى منذ فجر التاريخ؛ وهناك الكثير والكثير من الأعمال الفدائية التى تمت فى أعماق سيناء أثناء حرب الاستنزاف؛ ولم يُكشف عنها الستار بعد، وتلك الأعمال الفدائية قام بها ضباط وصف ضباط وجنود، وما زالت فى حاجة إلى صياغتها بأقلام من كان منهم على قيد الحياة إلى اليوم».

وأكمل: «هناك بعض العمليات التى ترى القيادة السياسية والعسكرية أن تظل فى طى الكتمان لعدم الكشف عن استراتيجيتها واعتبارها من أسرار الحرب التى لا يعلمها إلا القلة من المتخصصين، وفى حدود معلوماتى، فإن جمعية المحاربين القدماء لديها مجموعة يُطلق عليها اسم (رجال من ذهب)؛ وتلك المجموعة تحاول الاتصال بمن هم على قيد الحياة من المقاتلين حتى اليوم، للإدلاء بشهاداتهم ومشاهداتهم فى تلك الحرب، وأتمنى أن يقوموا بإصدار بعض الكتب فى هذا الصدد فى القريب العاجل بمشيئة الله تعالى».

أحمد سويلم: أحتفظ برمال سيناء.. وبطولات الحرب لم تأخذ حقها فنيًا وأدبيًا

كان الشاعر أحمد سويلم نقيبًا يخدم بسلاح الإمداد والتموين، وكانت مهمته الكبرى هى توفير الوقود على الجبهة باستمرار، ورغم أن العدو كان يضرب الجسور وطرق الإمداد باستمرار، إلا أن المصريين فعلوها ونجحوا فى العبور والحفاظ على خطوط الإمداد للقوات المقاتلة، ما أسهم فى تحقيق النصر العظيم.

وعن لحظات النصر والأمل بعد اليأس، قال الشاعر أحمد سويلم: «تصور أنك تعيش ست سنوات على أمل يذهب ويجىء، يتجلى ويختفى، حتى كاد اليأس أن يتسرب إلى داخلك، وفجأة وجدت نفسك مدفوعًا إلى هذا الأمل، ومطالبًا بالتضحية من أجله، لا بد أن تُسقط من داخلك حسابات الخوف واليأس، وليكن ما يكون».

وأضاف: «لقد كنت، ومعى كثيرون، نتحسر على سيناء وهى فى أيدى الأعداء، حتى جاء اليوم الذى عبرنا فيه إليها، وكان أول شىء فعلته هو أن قبّلت رمالها، واحتفظت منها بزجاجة ما زالت فى بيتى إلى اليوم، لقد كانت تجربة من نوع خاص.. تجربة استعادة الحلم والروح والأرض، وقد عشتها بكل ما أملك من إحساس وفكر».

وتابع: «كنت فى سلاح الوقود، وكنت فى الجبهة بمنطقة الإسماعيلية فى الأيام الأولى من بدء الحرب، وكان القسم الذى أقوده- وكنت برتبة نقيب- مسئولًا عن إمداد الجيش الثانى، وكان علينا أن نمد أنابيب الوقود على صفحة القناة من الضفة الغربية إلى الضفة الشرقية، وكلما قصف العدو خطوط الإمداد أسرعنا بإصلاحها، حتى لا يتوقف ضخ الوقود إلى الجيش».

وواصل: «كنا نعمل ليلًا ونهارًا بسعادة بالغة وحماسة لا تفتر ولا تلين، لأن الموقف يستحق ذلك، مع المتابعة الدائمة التى تتطلب اليقظة والحرص على وجود رصيد من الوقود دائمًا لا يقل عن نسبة معينة لمجابهة الطوارئ».

واستطرد: «فى الحقيقة، نحن لم نكن نهتم بالطعام ولا بالشراب، أو حتى الاطمئنان على ذوينا وعائلاتنا، لأن هناك هدفًا أكبر هو هدف التحرير وكان أقوى من كل ذلك، ويكفى القول إن الزمزمية المملوءة بالمياه كان يقتسمها عشرون فردًا، وكنا نقتات على الطعام المجفف، ونصوم طوال اليوم فى رمضان، وبالرغم من ذلك لم نشعر بقسوة الظروف، لأننا كنا نتوق إلى رفع العلم المصرى على سيناء، وحرق العلم الإسرائيلى، وهذا أجمل أهدافنا».

وعن دور الكتب ووسائل الإعلام فى التذكير بحرب أكتوبر، قال: «أرى أن أيام أكتوبر لم تأخذ حقها أدبيًا وفنيًا رغم أنها لا تقل أهمية عن الحروب الأخرى التى قدمتها أفلام كثيرة، ولا أدرى لمَ هذا التخاذل!».

وأكمل: «هناك بطولات فردية مجهولة ومختفية تستحق إلقاء الضوء عليها، منها مثلًا بطولة الجندى المصرى ومواجهته الدبابات ببندقية عادية، ومنها كيف تصرف الجنود فى إزعاج العدو فى الثغرة وكيف كانوا يهاجمونه بشراسة، ومنها بطولة سلاح الإمداد والتموين فى توفير الإعاشة باستمرار برغم الصعوبات التى قابلها، ومنها التضحية الفردية لحماية الزملاء على الجبهة، وغير ذلك كثير».

واختتم حديثه بالقول: «مثل هذه المواقف تستحق أن تسجل، وأن تصبح حكايات وقصصًا لكل من يريد أن يعرف ماذا حدث فى أكتوبر، وكيف تحقق هذا النصر العظيم؟».

محمود عرفات: عند عبورى خط بارليف أدركت أن لحظات الانكسار تبددت للأبد

ينتمى محمود عرفات لجيل النصر، بدأ خدمته العسكرية فى ٦٩، ثم تحول إلى ضابط للتوجيه المعنوى، وظل خمس سنوات فى الجيش المصرى، وحارب وقاتل وشارك فى النصر.

دوّن «عرفات» تجربته فى روايته «سرابيوم»، وتحدث فيها عن حرب أكتوبر، الحرب التى عاشها بجوارحه وهتف حتى بُحّ صوته.

وعن حرب أكتوبر وتأثيرها وكيف ضمّن أحداثها فى روايته، يقول عرفات: «تم تجنيدى فى شهر سبتمبر من عام ١٩٦٩، أى ما قبل أربع سنوات من لحظة الحسم، وصرتُ جنديًا بسلاح المدفعية، وأتممت الدورات التدريبية على المدافع ذاتية الحركة، التى اكتملت بدورة قائد طاقم وقمنا بتنفيذ مشروع ضرب نار بالذخيرة الحية».

«عرفات» خاض الحرب منذ بدايتها، كان واحدًا من الذين حملوا النصر المقدم على أكتافهم القادرة.. لا يهمه رصاص يتناثر أو دبابات تجرى ودانات تقذف وصواريخ تُوجه.

رجع محمود عرفات فى الزمن، ووقف هناك مرة أخرى، على الجبهة، وحكى عن مشاهد عاشها وخاض غمارها وكان جزءًا منها، وأول المشاهد يوم ٦ أكتوبر الساعة الحادية عشرة صباحًا: جاءت إشارة عاجلة لاجتماع مفاجئ فى مكتب رئيس أركان اللواء، العقيد عادل القاضى. حضرت الاجتماع رغم صغر رتبتى، ملازم أول، باعتبارى رئيس فرع، مثل قائد المدفعية وهو مقدم. 

قال عادل القاضى: «تحدد موعد بدء الحرب.. فى الثانية بعد الظهر.. بضربة جوية.. يعقبها تمهيد بالمدفعية ثم العبور.. اقرأوا الفاتحة»، ونظر إلى المقدم فوزى بشارة، قائد مدفعية اللواء، قائلًا: «أنت أيضًا يا سيادة المقدم.. اقرأ فاتحتك.. من الآن.. نفذوا خطة الحرب وتعليماتها».

فى العاشرة مساء من اليوم الأول للحرب، كانت وحدات اللواء المدرعة تقترب ببطء من القناة، ولا نرى أمامنا إلا أشجار النيران وأصوات انفجارات دانات المدافع والقذائف المختلفة. ونستمع إلى البيانات العسكرية بتركيز وشوق وخوف.. نبيت وعيوننا مفتوحة على اتساعها.

وفى اليوم الثانى من لحظة طلوع النهار إلى الساعة الواحدة والثلث ظهرًا: «طلع النهار، فإذا بالطائرات الإسرائيلية تُغير على الشاطئ الغربى للقناة وتقصف المعابر والتجمعات والسيارات والحشود بجنون.. وتتساقط الطائرات المُغيرة كالذباب».

وأهالى سرابيوم.. رجالًا ونساء وأولادًا، يقفون على جانبى الطريق المؤدى للمعبر، يلوحون للمقاتلين ويهتفون لهم، وقد طار صوابهم، ويقدمون للمقاتلين سلال الطعام والخضروات الريفية، دون خوف من الطائرات التى تنقض كل عدة دقائق لتقصف الجموع المحتشدة فى محاولة يائسة لوقف عبور مقاتلينا. 

ولحظة عبورى على معبر سرابيوم فى الواحدة والثلث من بعد ظهر السابع من أكتوبر ٧٣، لا أستطيع وصفها؛ كان هتاف «الله أكبر» يعلو على صوت دانات المدافع وقصف الطيران الذى لم ينقطع.. شعرتُ بالزهو وأدركتُ أن الانكسار الذى سيطر على كيانى، بعد هزيمة ٦٧ قد تبدد.

فى اليوم الثالث، طلع النهار، فوجدنا وصلة مياه نظيفة بمحبس عملاق، وتنتهى بخرطوم طويل، بالقرب منا على الشاطئ الشرقى للقناة، ورجال المرور ينظمون تزويد فناطيس المياه الخاصة بالوحدات المقاتلة لتأمين المياه النظيفة للمقاتلين. أذهلنى المنظر، وسألت بغير صوت: «من ذا الذى خطط لذلك؟» و«من هم الأبطال الذين نفذوا؟» و«متى تم ذلك؟» أدركت يومها أن البطولة ليست لمن يحمل السلاح فقط، بل إن البطولة تصلح لوصف كل مهمة تتم فى ساحة القتال، يومها عرفت معنى البطولة الحقيقية.

وتوجهت لنقطة إخلاء الجرحى فى «طوسون» فى اليوم الرابع ورأيت عجبًا.. مقاتلين على نقالات ينتظرون النقل إلى مستشفيات غرب القناة، مصابين بإصابات جسيمة، لم أسمع آهة واحدة تصدر من أفواههم.. رأيت ابتسامة راضية على وجوههم.. بالرغم من أننى لم أحتمل رؤيتى لإصاباتهم.

السيد نجم: رغم إدراكنا بالخسائر المحتملة لم نتوقف عن المطالبة بالثأر 

قال الكاتب والأديب السيد نجم، أحد أبطال حرب أكتوبر المجيدة، إن القدر اختاره ليكون واحدًا ممن حملوا لواء الدفاع عن الوطن، وأن يخدم فى الصفوف الأمامية التى عبرت القناة وخط بارليف المنيع.

وعن ذكرياته ومشاركته فى الحرب، أضاف: «حاليًا وبعد أكثر من خمسين سنة من انقضاء تلك الأيام، يمكن أن أصفها بأيام التحدى والصبر، كان علينا نحن الجنود تجاوز المشكلات الشخصية والأسرية والعائلية، حيث تؤكد الإحصاءات التابعة لمركز البحوث الجنائية انخفاض معدلات الجريمة للصفر فى السادس من أكتوير ولشهر بعده».

وتابع: «تمكنت من التكيف مع صعوبة الحياة العسكرية الشاقة والمعيشة فى الجبل والصحراء وندرة عناصر الترفيه التقليدية، ومع ذلك كله أشهد أننى لم أسمع من يعلن تمرده على ما نحن فيه، بل كان الجميع يطالبون بسرعة اتخاذ قرار العبور والثأر مهما كانت الخسائر».

واستطرد: «أعتبر تجربتى فى الحياة العسكرية والحرب لخمس سنوات تجربة مؤلمة لى ولجيلى، ونشرت بعض القصص أثناء الشهر الأول وما بعده من بداية المعارك، بل وقبل ٦ أكتوبر نشرت قصة بعنوان (ليلة من ألف وخمسمائة ليلة) فى روزاليوسف عام ١٩٧٢م، ثم كانت أول رواية لى (السمان يهاجر شرقًا) عن تجربة أكتوبر وروايتى (أيام يوسف المنسى)». وقال: «أصدرت مجموعة قصصية باسم (أوراق مقاتل قديم)، ثم كتاب (يا بهية وخبرينى) ويتضمن ٣ روايات قصيرة، كما تناولت قصص أبطال كثيرين ممن شاركوا فى المعارك ضمن رواياتى الـ١٣ الأخرى».

واختتم: «كتبت فى تنظير أدب الحرب وأدب المقاومة ٩ كتب، وهى أكثر ما كُتب فى العالم العربى لكاتب واحد فى هذا المجال منها الحرب: الفكرة- التجربة- الإبداع وأدب المقاومة.. قضايا ومفاهيم، وأطياف إبداعية فى مواجهة العنف».

أحمد نوار: الحرب الكبرى بدأت قبل العبور بسنوات وانتهت بملحمة إنسانية قتالية وطنية

الدكتور أحمد نوار، رئيس قطاع الفنون التشكيلية الأسبق، هو واحد من أبطال أكتوبر، ومن قبلها حرب الاستنزاف التى أنهكت العدو، ومهدت لمعركة العبور وأيام النصر.

وقال أحمد نوار عن الحرب التى عايشها: «فى البداية، يجب التوضيح أو التصحيح للمفهوم العام عن حرب أكتوبر، التى لم تبدأ بيوم الـ٦ من أكتوبر ١٩٧٣، بل بدأت فعلًا عندما أعيد بناء الجيش المصرى بعد عام ١٩٦٧، تحت قيادة الفريق محمد فوزى، وزير الحربية آنذاك، بإرادة وطنية من القائد العظيم الراحل جمال عبدالناصر».

وأضاف: «بناء على ذلك، بدأت حرب الاستنزاف بعد حرب ١٩٦٧ مباشرة، وامتدت حتى سبتمبر ١٩٧٠، وهو تاريخ وقف إطلاق النار، وخلالها لقنت القوات المسلحة المصرية العدو الصهيونى دروسًا قاسية، وكبدته خسائر فادحة على طول خط المواجهة، من السويس جنوبًا حتى بورسعيد شمالًا، وامتدت أعمال القوات الخاصة المصرية إلى عمق سيناء وخلف خط بارليف، وأثبتت أن إرادة المقاتل المصرى لا تعرف المستحيل».

وتابع: «على مدار تلك السنوات، استخدمت كل أنواع الأسلحة المتطورة، وحصل المقاتل المصرى على درجات عالية من الكفاءة القتالية والقدرة على المبادرة بالهجوم والجسارة والشجاعة، لذا فإن حرب الاستنزاف هى الحرب الكبرى، التى تُوجت بعبور قناة السويس فى أكتوبر ١٩٧٣، وحققت نصرًا غير مسبوق على المستوى العسكرى المتعارف عليه فى العالم، وهذا يؤكد أن الحرب لها بداية ونهاية، ولا يجب أن نعتبر النهاية هى كل شىء، بل هى نتاج سنوات من القتال والفداء واستشهاد الآلاف من الشباب».

وعن التوثيق الفنى والأدبى للانتصار العظيم، قال «نوار»:» بكل صراحة ومصداقية، ورغم أنى أقمت عدة معارض تشكيلية عن الحرب وشهدائها، فى أعوام ١٩٧١، و٢٠١٠، و٢٠١٤، ونفذت بعض الأعمال عن العبور والقنص والنابالم فى معرضى المقام حاليًا بمجمع الفنون بالزمالك، إلا أننى أعترف بأنى لم أوفِ حرب أكتوبر حقها لعدة أسباب، منها أن الحدث أكبر من التعبير عنه فى لوحة أو تمثال، لذا فقد تقدمت منذ سنوات طويلة باقتراح للرئيس الأسبق حسنى مبارك، ووزارتى الدفاع والثقافة وقتها، بإنتاج فيلم روائى كبير يرقى لمستوى الحدث العبقرى الذى تم بعبور القناة، واتخذ الاقتراح بعض المراحل الأولى للتنفيذ، ثم توقف لعدم امتلاك إرادة التنفيذ من المؤسسات المعنية».

وواصل: «الإعلام أيضًا وبكل أنواعه غاب عن وضع خطة للتعريف بالانتصار العظيم من خلال توثيق حقيقى لما تم على أرض الواقع، منذ بداية حرب الاستنزاف وحتى أكتوبر ١٩٧٣، وما حدث هو (إعلام المناسبات)، فالجميع يتغنى بكيفية استلهام حرب أكتوبر فى حياة المصريين وإعداد أجيال قادرة على الاستمرار بحس وطنى، ولكنى ما زلت أعيش سنوات الحرب، وما زلت أفكر فى عمل تشكيلى يرقى لمستوى الإنجازات العسكرية المصرية منذ بداية الحرب الكبرى، والتى تُوجت بالعبور والنصر فى أكتوبر ١٩٧٣».

وعن كيفية التعبير عن أكتوبر فى كتبه، قال «نوار»: «كتبت عن الثغرة، فى الجزء رقم ١٩ من كتابى (نوار عين الصقر.. قناص حرب الاستنزاف) الصادر فى ٢٠٠٢، بعد مراجعة دقيقة من الإدارات المختصة بالقوات المسلحة، فى الصفحات من ١٣٣ وحتى ١٣٨، بعد أن أحسست برغبتى فى تناول أمر مهم، أزعجنى شخصيًا إلى حد لا يحتمل».

وتابع: «كتبت عن الثغرة، بعد أن أنهيت خدمتى العسكرية، لأنى عندما سافرت ضمن بعثة ومنحة مقدمة لى من الحكومة الإسبانية، رصدت شجون الثغرة الشهيرة، التى أحدثها العدو الصهيونى فى منطقة الدفرسوار بعد نجاح الجيش المصرى فى عبور قناة السويس وتدمير خط بارليف، وتبديد كل التوقعات الاستراتيجية العالمية، التى تنبأت بتدمير ٨٠٪ من الجيش المصرى فى حال مهاجمته خط بارليف وعبور المانع المائى للقناة، لقد كان عملًا عسكريًا عبقريًا ذروته اختيار أماكن العبور وزمانه، مع خطة رائعة التنفيذ لخداع العدو ومفاجأته فى مقتل».

واستطرد: «ذات مرة وعلى مدار ٦ أشهر، كنت أسأل عن سر التنبيهات اليومية علينا نحن الجنود برفع درجة الاستعداد تحسبًا لأى هجوم صهيونى، خاصة أننا موجودون على القناة بالفعل للدفاع عن مصر، ونحن فى غاية الاستعداد للمواجهة بشكل دائم، وكانت الإجابة التى تلقيتها من قائد كتيبتى الهُمام، المقدم عصام حافظ حلمى، هى أن المخابرات المصرية قد اكتشفت خطة صهيونية لجعل منطقة الدفرسوار مستهدفة بشكل استراتيجى، وأن تلك الخطة معدة للتنفيذ حال عبور الجيش الصهيونى الضفة الغربية للقناة».

وواصل: «كانت الخطة تقوم على أساس فتح ثغرة فى الدفرسوار، يعبر منها الجيش الصهيونى إلى الداخل، ثم ينطلق سريعًا وراء مؤخرة الجيش المصرى فى اتجاه الجنوب حتى السويس، ويتم فتح الثغرة بضرب مكثف يشغل الموقع المصرى بالرد عليه، بينما تتسلل قواته فى الخفاء عبر الأحراش والظلام».

واستطرد: «كان ردى: وهل ذلك ممكن؟، فنحن الآن مهما كانت كثافة الضرب الصهيونى لا نغفل ثانية عن مراقبة المياه لمواجهة أى احتمال لعبورهم، وكان رده: هذا صحيح ولكنه يتم بأعلى كفاءة الآن، بفضل تلك التعليمات المتكررة التى دفعت القيادة إليها بعد معلومات المخابرات المصرية».

وأشار إلى أنه، وعلى مدار أيام الحرب بالكامل، كانت مواقع الجيش المصرى على طول خط المواجهة، من السويس جنوبًا إلى بورسعيد شمالًا، تنبض بالحياة ودقات قلوب المقاتلين تزداد بقوة، وإصرارهم على إنجاز مشرف يحفظ سمعة القوات المسلحة، وكانت الملاحم تنفذ، وسط التخطيط والتكليف والعلم العسكرى والمعلومات الدقيقة من كتائب الاستطلاع وطائرات التصوير الجوى، ووسط تفاصيل لا نهاية لها.

وأكد أن الإعداد لعبور تلك الجماعة الفدائية من المقاتلين كان يعتبر ملحمة إنسانية قتالية وطنية، تحتاج إلى دراسة وتدقيق فى كل شىء، بدءًا من المقاتل وحالته النفسية وكفاءته العسكرية، وإرادته وشجاعته وشعوره بأنه سيعبر القناة وسيكون فى قلب مواقع العدو الصهيونى، خاصة أنه يمكن أن يستشهد أو يعود جريحًا، مضيفًا: «هذا أمر يحتاج إلى تأريخ يشارك فيه علماء عسكريون، وعلماء نفس واجتماع وغيرهم، حتى نصل إلى تأريخ علمى متكامل».

واختتم حديثه بالقول: «فى هذا المقام أعمل فنيًا منذ فترة فى محيط اسمه (إرادة وطن)، وأنتجت مجموعة من الأعمال الفنية التى تعبر عن تلك الإرادة، وكلها تهدف إلى استكشاف الطاقة التى يمتلكها الوطن من خلال أبنائه العلماء والمبدعين فى شتى المجالات، وتؤكد أنه لا مستحيل أمام إرادة قوية، تؤدى إلى التحدى والإصرار على الانتصار فى الحرب أو السلم، وكما ذكرت فإننى أفكر بشكل مستمر فى إنجاز عمل فنى كبير وملحمى عن الحرب الكبرى التى تُوجت بالعبور، وحتى الآن الصورة الذهنية لهذا العمل تدور فى خيالى، وأتمنى أن تصل إلى مرحلة التنفيذ، وأن ترى النور قريبًا، وأن ترقى لمستوى إرادة الوطن، الذى حقق نصرًا مضيئًا لتاريخ مصر، مع الحفاظ على كرامتها وكبريائها وعزتها».

سمير الفيل:  زميلى أهدانى خوذة طيار إسرائيلى مقتول كانت نواة لمعرض مصغر للغنائم

لم يشارك الكاتب سمير الفيل فعليًا فى الحرب، ففترة تجنيده كانت بعدها بعام واحد، لكنه عايش الحكايات والأجواء مع المجندين، عايش لحظات النصر ورجوع الكرامة، عاصر الفرحة التى لونت كل الشفاه، حتى إنه حين يغلق عينيه فكأنما يسمع دوى الرصاص والقذائف والحناجر وهى تهتف: «الله أكبر».

يقول سمير الفيل: «تعرضت مصر لهزيمة مروعة فى الخامس من يونيو ١٩٦٧، إذ جرى احتلال سيناء كاملة والضفة الغربية للأردن، ومرتفعات الجولان السورية، وأشاعت إسرائيل أن عبور القناة يحتاج إلى عدة قنابل ذرية لا تتوافر لدى الخصوم». 

صمم المصريون على المقاومة، ونهض الكُتاب بدورهم الحماسى فى مخاطبة الشعب، وهو ما تمثل فى القصائد الحماسية، والرغبة فى تغيير الأنساق التقليدية داخل النطاق الأدبى. 

تعرفنا على فرقة «أولاد الأرض» بقيادة كابتن محمد غزالى، وغيرها، كما تشكلت منظمة سيناء العربية التى قامت بأعمال بطولية، وتم بناء حائط الصواريخ خلال حرب الاستنزاف، ولا يمكننا أن ننسى أغانى المقاومة المحفزة، مثل: «موال النهار» و«يا بيوت السويس» و«مصر التى فى خاطرى». 

لم تكن حرب السادس من أكتوبر شيئًا نبت من فراغ، بل نجحت الحرب نتيجة استخدام العلم فى تطوير الكتائب القتالية، وقد حضرت فيما بعد مناورات الخريف السنوية فى «وادى الملاك» و«صحراء العامرية» و«تبة ضرب النار فى فايد»، ولاحظت الجدية وبذل العرق فى التدريب. 

أُجلت دفعتى لثلاث سنوات، ولم أنخرط فى كتائب الجيش إلا بعد الحرب بعام كامل، وانضممت لسرية الهاون ٨٢ مم، وتنقلت بين كتيبتى ١٦ مشاة و١٨ مشاة، وكتبت أول رواية عن الحرب فى عام ١٩٧٤، لكنها فازت فى مسابقة القوات المسلحة عام ١٩٨٦، ولدىّ شهادة تقدير موقعة من كل من العقيد محمد شوقى حامد، رئيس تحرير مجلة النصر، واللواء أركان حرب محمد جمال شرف الدين، مدير الشئون المعنوية للقوات المسلحة، بتاريخ ٢٣ يناير ١٩٨٦، نشرت بعدها فى عام ١٩٩٠، وفى اليوبيل الفضى للحرب منحتنى القوات المسلحة ميداليتها الفضية فى حفل كبير، أقيم بدار المدرعات بالقاهرة.

عبرت عن العساكر، والوقائع القتالية بحس إنسانى فريد، أو كما قال جورج جحا، فى تقرير بثته «وكالة أنباء رويترز»، إن الكاتب قدم الحرب فى زى إنسانى وبروح مرحة لطيفة، لا تخلو من عذوبة ورقة.

وكانت أول مجموعة قصصية لى هى «خوذة ونورس وحيد» ٢٠٠١، ومجموعة أخرى هى «كيف يحارب الجندى بلا خوذة؟» فى نفس السنة، كما كتبت مجموعتى الثالثة «شمال.. يمين» عام ٢٠٠٧. 

كلها كتابات عالجت فكرة الحرب والشهادة لأبطال حملوا أرواحهم على أكتافهم، ونازلوا العدو الصهيونى بإباء وشمم.

وفى ذات السياق، نقرأ للدكتورة عزة بدر: «ترسم مجموعة (كيف يحارب الجندى بلا خوذة؟) لوحة قاسية للحرب.. إنها مثل لوحة جرنيكا لبيكاسو، ولكن بالكلمات؛ فكما تطل الأعين المرتعبة، وبقايا العظام والرءوس المتناثرة هنا وهناك فى المجموعة، تطل الأعين المذعورة والقلوب الواجفة من مكامنها مشفقة على العالم من قسوة الحرب ومآسيها فى اللوحة، وتستطيع أن تسمع فى هذه المجموعة القصصية أنّات المعذبين الذين اكتووا بآلام الموت والفراق، وتستطيع أن تنصت لجريح يود لو يرتشف قطرة ماء، يذوب المرء أمام آلام الجريح حتى لو كان خصمًا، يمد اليدين ليسقيه الماء فيرتد الماء سهمًا غادرًا، وطعنة مباغتة».

زاملت المحاربين فى منطقة الدفرسوار وسرابيوم، وحكوا لى عن الحرب، وكيف خاض المقاتل الفرد حربًا شرسة مستخدمًا قذائف الآر بى جى أو مدافع الفهد.. وحكى لى المقاتل مصطفى العايدى ما حدث، خاصة أن كتيبته أسقطت طائرات للعدو، وفى أول إجازة ميدانية أهدانى خوذة طيار إسرائيلى كانت نواة لمعرض مصغر للغنائم. وما زالت عندى رقعة صاج مكتوبة بالعبرية، تشير إلى حقل ألغام.

عانى الجنود من تأخر التعيين وحفروا فى الرمال بحثًا عن قطعة خبز «جراية» أو رشفة ماء من «زمزمية».. أتصور أن هؤلاء المحاربين فى كبريت والدفرسوار وتبة الشجرة، قد خاضوا حربًا غير متكافئة، لكنهم تمكنوا من انتزاع النصر فى ظل أقسى الظروف.

ولا أنسى الدبابات المحترقة عند قرية «أبوعطوة»، وأيضًا عند مدخل السويس التى حاول شارون دخولها فتصدت له المقاومة الشعبية الباسلة.. كل هذا سجلته فى قصصى القصيرة التى فازت بجوائز أولى فى سنوات ١٩٧٤ و١٩٧٥ و١٩٧٦، وقد كُرمت مرتين بعد أن فزت فى مسابقات «أدب الحرب»، وهى سلسلة كان يشرف عليها جمال الغيطانى الذى كتب عن تجربتنا فى الكتابة، ومعى سمير عبدالفتاح، ومعصوم مرزوق، وسيد نجم، وآخرون.

أكتوبر حرب تحرير، خاضها المحارب المصرى مستندًا إلى تاريخ عريق وعمق حضارى حقيقى، وقد كان بناء القوات المسلحة أمرًا فى غاية الأهمية، ولا ننسى رجالًا عظامًا أمثال الفريق أول محمد فوزى، والفريق الشاذلى والمشير الجمسى، كلهم رجال صنعوا النصر، وتحدوا الغرب الذى اصطف إلى جوار العدوان الإسرائيلى، ولا شك أن روايتى الثانية «وميض تلك الجبهة» لامست قلب التجربة، وقدم للرواية الناقد الكبير سيد الوكيل، والرواية صدرت عن الهيئة العامة للكتاب عام ٢٠٠٨.