رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من تاريخ جماعة الإخوان الأسود (4)

كانت بريطانيا تعتبر مصر، منذ إعلان الحماية عليها، بداية الحرب العالمية الأولى، محورًا مهمًا لها في الشرق الأوسط لتهيمن الشركات البريطانية، في الفترة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، على الاستثمار الأجنبي والحياة التجارية في مصر، في حين كانت أكبر قاعدة عسكرية للقوات البريطانية موجودة في قناة السويس.. زادت التحديات للوجود البريطانى في مصر بتزايد الحركات القومية والدينية، في حين كان الملك فاروق، الذى تولى العرش عام 1936، حليفًا للندن.. في ذلك العام، دعا الإخوان للجهاد ضد اليهود في فلسطين، وأرسلوا متطوعين، بعد مطالبة المُفتى بالجهاد هناك.. اعتبرت جماعة الإخوان بريطانيا دولة ظالمة، ودعت لمقاومة الاحتلال في تلك الفترة، والذى تنامى، خصوصًا بعد تمرد فلسطين خلال السنوات الأولى من الحرب العالمية الثانية.. في بداية الأمر، انتهجت بريطانيا استراتيجية قمعية ضد الإخوان، خصوصًا بعد تحالفهم مع القوى السياسية الأخرى.. ولكن في الأربعينيات، ومع مهادنة حكومة فاروق لحسن البنا، بدأت بريطانيا في تمويل جماعة الإخوان، حيث رأى فاروق أنَّه من المفيد التحالف مع قوى سياسية أخرى، ضد الأحزاب السياسية العِلمانية، والتي كان يمثلها حزب الوفد.. ويشير تقرير للمخابرات البريطانية عام 1942، إلى أنَّ «القصر الملكي قرر أنَّ جماعة الإخوان جماعة مفيدة لهم، ومن هنا بدأت رعاية القصر الملكي لهم.. وحتى يومنا هذا، تم رعاية العديد من الجماعات الإسلامية في مصر من قِبل الحكومة البريطانية، لمعارضة خصوم لهم أو لتعزيز مصالحهم».
وبحسب الكاتب الإنجليزي مارك كورتيس، في كتابه «التاريخ السري لتآمر بريطانيا مع الأصوليين»،Secret Affairs: Britain›s Collusion with Radical Islam فقد موَّلت بريطانيا جماعة الإخوان في مصر سِرًا، من أجل إسقاط نظام حكم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، ومن عَجَبٍ، أنَّ التمويل الذى بدأ عام 1942 استمر بعد وفاة عبدالناصر، رغم استخدام الرئيس الراحل أنور السادات الجماعة لتقويض تواجد اليسار والناصريين في الشارع المصري، واستمرت بريطانيا في اعتبار الجماعة «سلاحًا يمكن استخدامه».. وفى الخمسينيات، تآمرت بريطانيا مع الجماعة لاغتيال عبدالناصر، وكذلك الإطاحة بالحكومات القومية في سوريا.. في عهد الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، اعتبرت بريطانيا جماعة الإخوان بمثابة «المُعارَضَة» لهذا النظام، التي يمكن استخدامها لتقويضه، وعقد مسئولون بريطانيون اجتماعات مع قادة الجماعة، كأداة ضد النظام الحاكم في مفاوضات الجلاء.. وخلال العدوان الثلاثى عام 1956، أجرت بريطانيا اتصالات سرية مع الإخوان وعدد من الشخصيات الدينية، كجزء من خططها للإطاحة بعبدالناصر، أو اغتياله، وكان اعتقاد المسئولين البريطانيين، في ذلك الوقت، يركز على احتمالية تشكيل الإخوان الحكومة الجديدة بعد الإطاحة بعبدالناصر على أيدي البريطانيين.. وفى مارس 1957، كتب تريفور إيفانز، المسئول في السفارة البريطانية، الذي قاد اتصالات سابقة مع الإخوان قائلًا، إنَّ اختفاء نظام عبدالناصر ينبغي أن يكون هدفنا الرئيسي.
كان «هدف بريطانيا من وراء دعم المنظمات الإسلامية في ذلك الوقت هو التصدي للتيار القومي، الذى اكتسب شعبية كبيرة، والحفاظ على الانقسامات في منطقة الشرق الأوسط، وجعلها تحت سيطرة سياسات منفصلة، لضمان عدم وجود قوة فاعلة وحيدة في الشرق الأوسط تسيطر على المنطقة، وهو ما كان يسعى عبدالناصر لتحقيقه ويدعمه فيه المؤيدون للقومية العربية، التي كانت التهديد الأبرز لمصالح بريطانيا، خصوصًا النفطية، خلال عقدي الخمسينيات والستينيات».. وبعدما اعترفت هيئة الإذاعة البريطانية BBC باستغلال بريطانيا جماعة الإخوان الإرهابية لشن حروب نفسية ضد الشعب المصري، كشف المفكر الإماراتي، على محمد الشرفاء، تاريخ العلاقة السرية بين جماعة الإخوان وأجهزة مخابرات بريطانيا وأمريكا، وخيانة الجماعة للدول العربية.. وأشار الشرفاء، خلال بحث مطول حمل عنوان «جماعة الإخوان وعمالتها للمخابرات البريطانية والأمريكية»، إلى أن أجهزة الاستخبارات استخدمت الجماعة لتنفيذ أغراضها داخل الدول العربية، وقد جاء في البحث ما يلى..
جاء أول اتصال مباشر بين المسئولين البريطانيين والإخوان عام 1941، في الوقت الذي اعتبرت فيه الاستخبارات البريطانية أنَّ الجماعة تُعِد خططًا تخريبية ضد المصالح البريطانية، كما اعتبر تقرير لها أنَّ الجماعة «الخطر الأكثر خطورة على الأمن العام في مصر».. كان ذلك العام الذي تم فيه اعتقال البنا وإيداعه السجن من قِبَل السلطات المصرية، ولكن ما إن تم الإفراج عنه في وقت لاحق من نفس العام، حتى اتصلت به السلطات البريطانية، التي وضعت بعض الاعتبارات في حسبانها، منها شكل التعاون بين الإخوان.. كما اتفق البريطانيون على أن تحاول الحكومة المصرية إحداث انقسامات داخل الجماعة، من خلال استغلال أي خلافات قد تحدث بين زعيمي الحركة، حسن البنا وأحمد السُكري، المؤسس الحقيقي لجماعة الإخوان المسلمين، حسب العديد من روايات أعضاء الجماعة، وأن تُسلِم الحكومة البريطانية لائحة إلى الحكومة المصرية تضم أسماء أعضاء جماعة الإخوان الخطرين، على ألا تقوم السلطات المصرية بأي إجراءات عدوانية ضد الجماعة، إلا بعد التشاور مع بريطانيا.
كما اتفق الجانبان المصري والبريطاني على السماح لحسن البنا، بنشر مقالات في الصحف تدور حول إرساء مبادئ الديمقراطية، الأمر الذي سيؤدي دورًا جيدًا لتفكيك الجماعة.. ناقشا أيضًا كيفية دعم الإخوان في تشكيل فرق تخريبية تتجسس على النازيين، الجماعة تم وصْفِها خلال الاجتماع بأنها جماعة دينية ظلامية، يمكن استغلالها في إخراج فِرَق انتحارية وقت الاضطرابات.. الطرفان كانا مدركين بأن الإخوان معادون لأوروبا وإنجلترا بسبب مواقف الأخيرة في مصر، ولكن توقعت إنجلترا أن يكون للجماعة شأن ونفوذ سياسي فيما بعد.. وبحلول عام 1944، وصفت لجنة الاستخبارات السياسية في بريطانيا جماعة الإخوان، باعتبارها خطرًا قائمًا على مصالحها، ولكن في ظل ضعف قيادة البنا، الشخصية البارزة الوحيدة، قد يُعجِل ذلك بانهيارها بسهولة.. التعاون كان مرفوضًا من بعض خبراء الاستخبارات البريطانية، إلا أنَّ زرع الإخوان كان له أبلغ الأثر في مواجهة بريطانيا للمعادين لوجودها داخل مصر.. انتهى.
وهكذا، وبحلول نهاية الحرب العالمية الثانية، كان لدى بريطانيا خبرة كبيرة في التعامل مع قيادات الإخوان، والتي ساعدتهم في تحقيق أهداف معينة.. هذا التعاون المؤقت كان لتحقيق أهداف محددة في حال افتقار بريطانيا لحلفاء آخرين، أو القوة الكافية لفرض أولوياتها، وقد مكنت هذه السياسة النفعية بريطانيا من تعميق دورها بشكل كبير في عالم ما بعد الحرب، كما ازدادت الحاجة إلى المتعاونين في بيئة عالمية أكثر صعوبة بكثير.. ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، كان الإخوان من القوى السياسية المؤثرة على الأحداث في مصر، إلى جانب حزب الوفد.. ومن جانبه، واصل الملك فاروق الاستفادة من الإخوان، حيث ظل الإخوان يمدون الحكومة بمعلومات عن الشيوعيين الموجودين في النقابات والجامعات، في أجواء اتسمت بالتصعيد ضد الوجود البريطاني، وزيادة تيار العنف الإخواني عام 1954.. أتي ذلك في وقت كانت هناك رغبة واضحة من البريطانيين والإخوان للتعاون مع بعضهما البعض، والتي أصبحت أكثر أهمية أواخر 1953، وهو الوقت الذي اتهم فيه عبدالناصر جماعة الإخوان بمقاومة مشروع الإصلاح الزراعي، ومحاولة تخريب الجيش من خلال «الجهاز السري» للجماعة.. في مطلع 1954 اشتبك أنصار الحكومة والإخوان في جامعة القاهرة؛ وتم إصابة عشرات الأشخاص، كما تم إحراق سيارة جيب عسكرية، الأمر الذي جعل ناصر يصدر قراره بحل جماعة الإخوان.. من بين قائمة طويلة من الاتهامات ضدهم تضمنها مرسوم الحل، جاءت اجتماعات الجماعة مع البريطانيين، الاجتماعات التي استمرت حتى وصلت لتكون أقرب إلى «معاهدة سرية».. وفي الوقت الذي سعى فيه الإخوان للترويج لانتفاضة شعبية، حاول جناحها العسكري اغتيال عبدالناصر، فيما عرف بـ«حادثة المنشية»، التي وقعت في الإسكندرية، بعدها تم إلقاء القبض على مئات من أعضاء الجماعة، في حين هرب بعضهم خارج البلاد.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.