رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جلد تعنى نقود

ياسين محمود
ياسين محمود

قالها جندى نازى حينما خسر الحرب والثروة: «لا أمتلك نقودًا». لن يصير شحاذًا، فالآريون لم يُخلقوا ليصبحوا شحاذين. حين قابل العربى فى اللعبة الصحراوية كان لكليهما لغة خاسرة، ومتكسرة إثر الحرب. كان العربى يحلم بعجرفة الآخر؛ أراد تذوقها، سواء حاكمًا أو محكومًا. وحين قال الألمانى جملته نالت إعجابه. فَهِم من خلال سجيته أن الألمانى يريد جلودًا- جمع جلد- لولا أن زوجة الألمانى أخبرته، فى أثناء تنزهها معتمدةً على عكاز عربى ردىء، أن الكلمة تعنى النقود. ورغم اعتراف زوجها بعدم امتلاك النقود، ولا يتجاوز اعترافه غرض وصف الحال، فإن العربى ترك كل ذلك الحديث وقال فى نفسه: «جلد تعنى النقود بالألمانية.. جلد تعنى النقود.. جلد تعنى النقود..»، وجعل يكررها حتى وصل حاصل جمع التكرار إلى ٩٩ مرة.

كان من المفترض أن يتعلم العربى الألمانية من ابنها، وستساعد الزوجة بعربيتها منتهية الصلاحية فى الترجمة من الألمانية وإليها. لكن العربى قال إنه اكتفى بهذا القدر؛ لقد وصل إلى حكمته الخاصة. كان كلاهما تاجرًا. هكذا يمنح التجار بعضهم الحكمة دون دراية. فقط على الأول أن يرى ما بين سطور الآخر. 

جلد تعنى النقود..

«هى السترة إذن!»، قال العربى كمن كشف سرًا. حين سألته الزوجة عن سر إعجابه بتلك الكلمة على وجه التحديد وأجابها، تعجبت من تلك المصادفة اللغوية. فقط تعجبت، ثم ذهب كل منهم إلى حال سبيله: عاد الزوجان إلى بلادهما بعد انتهاء الحرب وقبل انهيار سور برلين، فى حين ترك هو الصحراء عائدًا إلى الحضر. أطلع أهله على تلك المفارقة اللغوية باعتبارها خلاصة ما اكتسبه من تعامله مع اللغة الألمانية فى أثناء الحرب، فأصابهم الإحباط.

طلب الأديب استعارة تلك المفارقة. قال: «سأصنع منها قصيدة»، لكن التاجر رفض قائلًا إن تلك الجملة ستكون نقطة انطلاقه فى طريق الثراء.

طلب الجد الحكيم، وهو يرتجف خوفًا من النازيين، أن يهبها إليه ليخلِّد بها ذكراه.

الحكيم: لقد أحرقت الحرب كل الحكمة. لم يبق بعد الحرب سوى الصلبان التى يعلقوننا- نحن الحكماء- عليها، ولا نملك فسحة بخلاف ساعة الراحة، فنأكل ونشرب ونقضى حاجتنا وما يتبقى نقضيه مع أحبابنا كما أفعل معك الآن. تركونا هكذا.. لا أحياء ولا موتى؛ لعل الأيام تنصفنا ذات مرة ونتحول إلى هُبَل أو إيساف ونُعبَد حول كعبة وهمية يبنيها الناس من ذكريات الحرب المحطمة.. هكذا أخبرنا اليهود يا حفيدى الحبيب.

التاجر: ما هذا الهراء يا جدى؟

الحكيم: لا أدرى يا بنى.. لست مقتنعًا بما أقول، لكن الراوى أو الشيطان يوسوس لى بهذه الكلمات.. ربما لأن القصة نفسها ليست مكتملة فى رأسه.

التاجر: لماذا تكرر عباراته إذن؟

الحكيم: هو راوينا منذ سنوات ما قبل الحرب يا بنى.. لا أدرى ماذا حدث له!

آسف على تدخلى المفاجئ! أصبحت غير قادر على صياغة الأحداث وحملها فوق الكلمات. لذا أرجو المعذرة يا أعزائى. أنا حبيس تلك البيئة السخيفة. لا أستطيع الهروب من دورى ولا يمكننى توكيل راوٍ ينوب عنى. سأحاول جاهدًا أن أعالج عجزى هذا فى السطور الباقية. يا إلهى، أشعر بدوار شديد. هل هذا هو الموت؟ إذا مت من سيملى على تلك الشخصيات ما تقوله؟ يا للكارثة!

أسقط. أحاول قذف بعض الكلمات لأىٍّ من المحيطين بى، لكنهم للأسف لا يروننى. أحاول. أصرخ:

«يا تاجر؛ قل لهم إنك ستستغل تلك الجملة فى تجارتك. قلها واذهب إلى نومك».

شهيق.. زفير.. شهيق.. زفير.. ظلام

سأستغل تلك الجملة فى تجارتى يا جدى. لا أعرف كيف، لكنى فى الصباح سأجد طريقة ما. سأخلد الآن إلى النوم، وعد أنت إلى صليبك أينما كان.

بعد عدة حروب خلال العقود التالية، وفى أثناء القصف المتتابع لمدينتا الحبيبة التى لا ناقة لها فى تلك الحرب ولا جمل، اقتحم الضحايا والجنود الموالون للميليشيات التى تزحف لكسب الأرض مبنى البنك الذى أعمل فيه. قتلوا من قتلوا ونهبوا الخزائن. حاولت عبثًا أن أجد مخبًا من تلك المعمعة. لم أجد أمامى إلا ماكينة الصراف الآلى الضخمة. حاول المعتدون كسر الماكينة الألمانية الصنع، لكنها قاومت وانتصرت. صرخ زعيم الميليشيا أن لا طاقة لهم بها الآن، فانتزعوها من الحائط. حملوها فوق سيارة نصف نقل أمريكية الصنع.

التفوا حول الماكينة. صوبوا أسلحتهم وفتحوا النيران عليها، لكن لا نتيجة. أنا بالداخل أنتظر مصيرى. فتحت أدراج الماكينة؛ لم أجد فيها ما يستحق الذكر. الطلقات تتوالى على الماكينة من الخارج. جن جنون رجال الميليشيا. تساءلت كيف سيكون رد فعلهم عندما ينجحون أخيرًا فى اختراقها. حتمًا سيصعقون عندما تخرج الماكينة دمًا وأعضاء بشرية متناثرة عوضًا عن الأموال الطائلة. هل أنا يونس والماكينة هى بطن الحوت؟ هل أنا موسى وهى الصندوق الذى سيحملنى إلى قصر فرعون؟ هل أنا يوسف وهى الجب وسأخرج منها إلى قصر العزيز؟ لا أعلم حقيقة.

أيها الراوى الأحمق.. ما هذه الأسئلة التى تمليها علىَّ؟

الطلقات تخترق أدراج النقود أخيرًا بعدما أحاطت بى كسترة واقية من الرصاص. أتذكر.. النقود تعنى الجلد.. الجلد يعنى السترة. مقولة جدى التى ألقاها عليه الرواى عبر رجل ألمانى حقيقية إذن. قلتها بصوت مرتفع، فردَّ علىَّ صوت من خلفى أنه ما دامت مقولة الراوى القديمة تأكدت، فإذن انتهى دورك يا عزيزى.