رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لنحتفل حفاظًا على الذاكرة

هذا العام توجد أكثر من مناسبة تستحق أن نتذكرها ونحتفى بها، بعضها مرتبط بأسماء عظيمة بذلت أعمارها فى سبيل نهضة واستقلال مصر ومحيطها العربى، فقبل قرن من الزمان رحل سيد درويش المجدد الأول للموسيقى العربية، الذى خلع عن موسيقانا الطربوش التركى وانتصر بفنه للشعب الذى غنى بصوته، فكان إلى جوار موهبته العظيمة ضميرًا للوطنية المصرية التى تقاوم الاحتلال وتؤمن بالتنوع وتنشد الحرية فى كل المجالات، وقبل قرن أيضًا ولد محمد حسنين هيكل ولطيفة الزيات والبابا شنودة ونزار قبانى وعبدالعظيم أنيس وشريف حتاتة ومحمد الموجى ومحمود مرسى وصلاح منصور ومصطفى طيبة وعاصى الرحبانى، هؤلاء وغيرهم قدموا خدمات جليلة، كلٌ فى مجاله، تستحق الإشارة إليها والإشادة بها حتى لا تتآكل الذاكرة، ولأننا فى مرحلة من التاريخ تسعى قوى مختلفة إلى تجريدك حتى من هذه الذاكرة. وفى هذا العام، أيضًا، تحل الذكرى الخمسون لانتصار أكتوبر العظيم، والاحتفال به هذا العام يجب أن يكون مختلفًا، علينا أن نتذكر أبطاله وشهداءه وقادته، لكى يعرف أصدقاؤنا قبل أعدائنا أن مصر فى اللحظات الحاسمة من تاريخها تكون على قلب رجل واحد. أكاذيب المهزومين تزدهر فى كل عام حين تقترب ذكرى نصرنا المبين. الأجيال الجديدة يجب وضعها فى الصورة، لكى تعرف تضحيات جيل الأجداد الذى صنع معجزة قبل خمسين عامًا، أفقدت العدو توازنه وتطارده الكوابيس كلما اقترب شهر أكتوبر من كل عام. وقبل قرن من الزمان خرج أول دستور مصرى بعد ثورة ١٩١٩، الذى اعترفت فيه بريطانيا بمصر دولة مستقلة، وهو دستور ١٩٢٣، الذى حل محل القانون النظامى رقم ٢٩ لسنة ١٠١٣، والذى كان يعد مثل دستور للبلاد. شكّل عبدالخالق ثروت باشا رئيس الوزراء فى أبريل ١٩٢٣ لجنة الثلاثين لكتابة الدستور، برئاسة حسين رشدى باشا، وضمت شيخ الأزهر محمد بخيت، وستة أقباط بينهم البابا يؤانس، ويهودى واحد هو الرأسمالى أصلان قطاوى باشا. حزب الوفد انسحب من اللجنة التى رفضها زعيم الأمة سعد زغلول وأسماها «لجنة الأشقياء» وتظاهر أنصاره ضدها. خرج الدستور الجديد دون أثر للدولة الدينية، مادة واحدة فقط تحمل رقم ١٤٩ تقول إن الإسلام هو دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية، والشريعة الإسلامية المصدر الرسمى للتشريع، وقد استمات «الوفد» بشراسة فى مقاومة هذه المادة، وردد أن «العلمانية» لا تعترف بسيطرة دين معين.. الدين لله والوطن للجميع، لكن الحكومة تمسكت بهذه الصيغة. تدخّل الملك وسلطات الاحتلال كثيرًا فى عمل اللجنة، وظل دستور ١٩٢٣ معمولًا به منذ صدوره وحتى تم إلغاؤه فى أكتوبر عام ١٩٣٠ وصدور دستور جديد للبلاد عُرف بدستور ١٩٣٠، واستمر العمل به لمدة خمس سنوات. فاز الوفد فى ظل دستور ١٩٢٣ بأول انتخابات تشريعية، وتحول إلى الدفاع عنه وقيادة المظاهرات لإعادته، وبعد خمس سنوات عاد العمل بدستور سنة ١٩٢٣، وهو الدستور الذى استمر معمولًا به حتى قامت ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢. وفى العاشر من ديسمبر ١٩٥٣ أعلن اللواء محمد نجيب، رئيس الجمهورية، وباسم الشعب، عن سقوط دستور ١٩٢٣، وقال إنه لا مناص من استبدال هذا الدستور بدستور جديد يمكن للأمة بحق أن تكون فيه مصدر السلطات، وهنا تظهر شخصية عظيمة هى شخصية الفقيه القانونى عبدالرزاق السنهورى الذى تلاقت أحلامه مع أحلام الضباط الأحرار للوطن فى البداية، كان وقتها رئيسًا لمجلس الدولة، أسهم فى البداية فى صياغة تنازل الملك عن العرش، ثم فى وضع قانون الإصلاح الزراعى، وعندما قامت أزمة مارس الشهيرة بين محمد نجيب وجمال عبدالناصر، التى كانت فى حقيقتها هى أزمة الديمقراطية فى مصر، وكان السنهورى ومجلس الدولة إلى جانب الديمقراطية، ومن المطالبين بعودة الحياة المدنية، تم تدبير مظاهرات خرجت تطوف بشوارع القاهرة وتنادى بسقوط الحرية والديمقراطية وسقوط العلم والمتعلمين، واقتحموا مجلس الدولة، وتم الاعتداء الوحشى على الدكتور السنهورى، وبعد عزله تفرغ للكتابة القانونية، كما أنجز التشريعات لعدد من الدول العربية، قبل الثورة كانت علاقته بالوفد متوترة للغاية بسبب صلته الوثيقة بالنقراشى باشا، وقد وصلت العداوة المستحكمة بينه وبين حزب الوفد أنه عندما سافر العراق لوضع القانون المدنى العراقى اتصل مصطفى النحاس باشا، زعيم حزب الوفد، وطلب من الحكومة العراقية طرد السنهورى وإلا ستقطع العلاقات المصرية- العراقية، فما كان من السنهورى وقتها إلا أن سافر إلى سوريا ووضع القانون المدنى العراقى بالمراسلة.. ومن الحكايات الطريفة أيضًا أنه قد وصل الأمر بالثقة بعد الثورة بالسنهورى وقتها أنه كان سيعين رئيسًا للوزراء بعد على ماهر، والرواية كما حكاها صلاح الشاهد، كبير أمناء رئاسة الجمهورية فى عصر عبدالناصر، هى موافقة محمد نجيب، ولكن جمال سالم اعترض بعد أن همس على صبرى فى أذنه وقال إن الصحف الغربية تقول إن له ميولًا شيوعية، فقال السنهورى: «إننى أقر وجهة نظر جمال سالم، وأعرف أن الذريعة التى استندت إليها الصحف الغربية فى اتهامى بالشيوعية مرجعها إلى أننى وقعت وزملائى من مستشارى محكمة القضاء الإدارى بمجلس الدولة نداء للسلام ورد إلينا بالبريد من الخارج، كما ورد مثله لسائر الهيئات فى ذلك الحين عام ١٩٥٠، ولا يخرج مضمون هذا النداء عن الدعوة لإقرار السلام العالمى بمنع أساليب الحروب ومحاصرتها.. وإننى أطلب الانتقال للحديث عن المرشح الآخر».