رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

معركة فى الخلاء

استغرب أحدهم الحفاوة غير المسبوقة بذكرى رحيل الأستاذ نجيب محفوظ يوم ٣٠ أغسطس هذا العام، ونشر على صفحته فيديو يقلل من شأن موهبة صاحب الحرافيش، ووصل به الأمر إلى اتهامه بالخيانة ووقوف الصهيونية العالمية خلفه، هذا الشخص كاتب روائى لا بأس به، صاحب آراء كثيرة غريبة وأحيانًا متطرفة، ويعتقد أنه «يجاهد» فى سبيل إظهار الحقيقة.

من مآثر الأستاذ، رحمة الله عليه، أنه طوال حياته لم يلتفت إلى الذين هاجموه، لأنه كان مشغولًا بالكتابة، حين أصدر الأستاذ رجاء النقاش كتابه الفريد «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته»، الذى صدر عن الأهرام نهاية تسعينيات القرن الماضى- هاجمه أصدقاؤنا الناصريون بضراوة بسبب رأيه فى الزعيم جمال عبدالناصر، كنت أعمل فى مجلة الأهرام العربى، وشاركت فى عمل عدد خاص عن الكتاب، ودافعت عن معنى وقيمة صاحب «ثرثرة فوق النيل» فى مواجهة الذين تجاوزوا فى حق الرجل الكبير، وأنا المحب لعبدالناصر أكثر منهم، كنت انقطعت عن زيارته بسبب الحادث الإرهابى الآثم الذى تعرض له، وبسبب كثرة الذين ظهروا فى حياته بعده، كان سعيدًا بالعدد وهاتف الأستاذ أسامة سرايا رئيس التحرير وقتها، شكره وقال له: «خلى إبراهيم يعدى علىّ ضرورى يوم الخميس، وينسق مع الأستاذ جميل»، والخميس هو اليوم الذى يذهب فيه إلى سقارة بصحبة الأحبة الكبار: الفنان بهجت عثمان والمخرج الكبير الأستاذ توفيق صالح والفنان جميل شفيق، لم يحدثنى عن العدد، ولكنه تذكر وهو يضحك الذين هاجموه فى الخمسينيات والستينيات، وهم ثلاثة من كبار الكتّاب، وسأل «هم عاملين إيه دلوقتى؟»... الأخ المجاهد الذى استكثر محبة الناس لصاحب «زقاق المدق» لم يقرأ الكلمة التى كتبها فى الاحتفال بفوزه بجائزة نوبل، التى كانت متزامنة مع انتفاضة الحجارة العظيمة فى فلسطين المحتلة «فى الضفة وغزة، أقوام ضائعون رغم أنهم يعيشون فوق أرضهم وأرض آبائهم وأجدادهم وأجداد أجدادهم، هبوا يطالبون بأول مطلب حققه الإنسان البدائى، وهو أن يكون لهم موضع مناسب يُعترف لهم به، فكان جزاء هبتهم الباسلة النبيلة- رجالًا ونساءً وشبابًا وأطفالًا- تكسيرًا للعظام، وقتلًا بالرصاص، وهدمًا للمنازل، وتعذيبًا فى السجون والمعتقلات، ومن حولهم مائة وخمسون مليونًا من العرب يتابعون ما يحدث بغضب وأسى، ما يهدد المنطقة بكارثة إن لم تتداركها حكمة الراغبين فى السلام الشامل العادل»، الأستاذ نجيب تدافع عنه سيرته العظيمة مع الحياة والكتابة، والاحتفاء بذكراه بعيدًا عن الرسميات، يعنى أن حضور الرجل الكبير ممتد وأنه يكسب أرضًا جديدة وقراء جددًا رغم رحيله، لأنه لم يكن من المشغولين «بالبست سيلر» والخلطات المدهشة التى لا توجد بها رائحة للبشر، صاحب «المرايا» كما كتب شاعر فلسطين العظيم محمود درويش «يعرف من المدائح ما يكفى ليجعل العبث زهدًا». ولا يريد لأحد أن يحدق إلى صنم أو منحوتة. لكننا نحج إليه، لا لنعرفه.. فقد امتلأنا برواياته وتقمصنا شخوصها، بل لنحييه على ما كتب، ولنحيى أنفسنا جالسين بحضرة أسطورة حية خرجت من مخطوطة فرعونية. رأيت نساء قادمات من أقاصى حرف الضاد يقبّلن يده، فيخجل ولا يعرف السبب، كأنه هو ولا هو فى آن واحد. ثم يضحك ضحكة عالية، ويطلب سيجارة حان وقتها ليبدد بسحابة دخانها قداسة لا يصدقها ماكر مثله، وللناس التأويل. عاش ليكتب. ومنذ طعنه خنجر فى الرقبة تخلى عن سرد التفاصيل بدأب النملة، واختار تقطير النحلة، ماركيز العظيم حين علم بالطعنة الغادرة، أرسل له رسالة «إن أشعة الشمس تنتصر دائمًا على السحب مهما كانت داكنة أو محملة بالأمطار»، لم يرد عليه محفوظ إلا بعد عشر سنوات عندما علم أن صاحب «مائة عام من العزلة» توقف عن الكتابة، وكتب له «الكاتب يجب ألا يترك القلم، ويجب ألا يكون لديك شىء تكتبه حتى تمسك بالقلم، أمسك بالقلم فى جميع الأحوال واكتب». وإلى الآن أستغرب غضب شخص ما من تذكر رجل أجمع العالم كله على محبته وليس تقديسه كما قال أحدهم، رجل هو الآن بين يدى خالقه، يرى هذا الشخص أنه أكثر موهبة من صاحب الثلاثية لا تعرف كيف؟، طبعًا التقينا فى الحياة «كركترات» تعتقد أنها «ستين عتريس فى بعض»، ولكن ليس لهذه الدرجة، ولا أعرف الفرق بين الذى يحاول هدم «معنى» نجيب محفوظ بعد رحيله، وبين من حاولوا اغتياله أمام بيته، ذكرنى الصديق حسام علوان بمقطع من «أصداء السيرة الذاتية»، يحمل اسم «المعركة»: فى عهد الصبا والصبر القليل نشبت خصومة بينى وبين صديق. اكتسح طوفان الغضب المودة فدعانى متحديًا إلى معركة فى الخلاء، حيث لا يوجد من يخلص بيننا.ذهبنا متحفزين، وسرعان ما اشتبكنا فى معركة ضارية حتى سقطنا من الإعياء وجراحنا تنزف، وكان لا بد أن نرجع إلى المدينة قبل هبوط الظلام، ولم يتيسر لنا ذلك دون تعاون متبادل لزم أن نتعاون لتدليك الكدمات، ولزم أن نتعاون على المسير، ومع الخطى المتعثرة صفت القلوب ولعبت البسمات فوق الشفاه، ولاح الغفران فى الأفق.