رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر تنضم لـ"بريكس".. من يستفيد ممن؟!

بريكس
بريكس

لا حديث هذه الأيام داخل أوساط الأكاديميين والنخب السياسية والمهتمين بالشأن العام يعلو على انضمام مصر إلى تكتل "بريكس - BRICS" الاقتصادي. الأسئلة كثيرة عن الأسباب والدوافع والمزايا التي ستحققها العضوية الكاملة في ظل أزمة شح الدولار واختلال ميزاني التجارة والمدفوعات بالشكل الذي أدى إلى مزيد من الضغط على العملة المحلية "الجنيه"، وتراجع القدرة الشرائية للدولة والمواطن على حد سواء.

كل هذه الأسئلة يلخصها سؤال واحد يبحث المواطن العادي عن إجابته، ومفاده "هل ستنهي عضوية مصر في "بريكس" الأزمة الاقتصادية الطاحنة أو على الأقل ستسهم في تخفيف حدتها؟".

للإجابة عن هذا التساؤل يلزمنا أولًا توضيح بعض النقاط حول طبيعة ذلك التكتل وأسباب تأسيسه وحجم اقتصاداته، والوزن السياسي للدول الأعضاء وتأثيره في صياغة القرار الدولي.

تكتل "بريكس - BRICS" هو تجمع اقتصادي وسياسي تأسس في عام 2006، لكن أنشطته بدأت فعليًا في العام 2011. يتكون من أكبر 5 دول نامية، هي: البرازيل، روسيا، الهند، الصين وجنوب إفريقيا، والتسمية جاءت اختصارًا للحروف الأولى من الدول الخمس المؤسسة Brasil, Russia, India, China, South-Africa.

كسر الأحادية القطبية

في خطوة يراها المحللون "ثورية" نحو إعادة صياغة الديناميات الاقتصادية والسياسية دوليًا، ولكسر هيمنة الكتلة الغربية المعروفة بـ"السبع الكبار" على الاقتصاد العالمي، نشأ التكتل الجديد بين دول نامية ذات تأثير اقتصادي كبير كالصين والهند، وقوى إقليمية وعالمية مؤثرة كروسيا وجنوب إفريقيا والبرازيل، للمزج بين قوة الاقتصاد وسطوة السياسة، والوصول بهما إلى صيغة تمكّن تلك الدول من خوض الحرب الباردة الجديدة ذات الطابع الاقتصادي مع المعسكر الغربي بزعامة أمريكا، اعتمادًا على استغلال القدرة والميزة التنافسية لا على استخدام القوة والترهيب بالسلاح.

الأزمات الدولية المتلاحقة وزيادة منسوب التوتر بين القوى الكبرى مؤخرًا، دفع مؤسسي "بريكس" إلى السعي نحو تفعيل دور التكتل عالميًا، وتوسيع قاعدة عضويته بانضمام دول جديدة تمتلك تأثيرًا استراتيجيًا على الساحة الدولية، خصوصًا بعد توسع الولايات المتحدة الأمريكية في فرض العقوبات الدولية واستخدام الدولار كسلاح لتأديب الدول المشاكسة من خلال نظام "بريتون وودز - Bretton Woods System".

كل هذه السياسات والتحركات والإجراءات تستهدف كسر الأحادية القطبية والوصول إلى عالم متعدد الأقطاب، لا تنفرد فيه دولة واحدة بالقيادة ولا تتحكم في مصائر بقية الدول.

نحو التوسع

في القمة الأخيرة التي انعقدت في جنوب إفريقيا قبل أيام، أعلن قادة مجموعة بريكس، الخميس، عن منح 6 دول جديدة، هي: مصر والأرجنتين وإثيوبيا وإيران والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، العضوية الكاملة اعتبارًا من الأول من يناير.

ثلاثة قواسم مشتركة يلاحظها المتابع في العضويات الجديدة التي حظيت بموافقة قادة المجموعة من بين 22 طلبًا للانضمام، أولها أن جميعها من دول الجنوب، ما يعني أن التكتل يكرس لفكرة التعاون الجنوبي - الجنوبي بين الدول النامية في مواجهة دول الشمال من الدول المتقدمة. هذا المعنى يؤكد أن قطبية العالم المنشود ستختلف عما كانت عليه إبان الحرب الباردة من التقسيم الرأسي بين معسكر شرقي يتبنى الاشتراكية ومعسكر غربي يتبنى الرأسمالية، إلى التقسيم الأفقي بين دول الشمال الغنية التي حققت الرفاهية، ودول الجنوب النامية التي تكافح للنهوض.

الملاحظة الثانية أن الدول المنضمة حديثة - باستثناء الإمارات - جميعها من الدول ذات الأحجام الكبيرة نسبيًا من حيث عدد السكان، بما يعني أنها تمثل أسواقًا ضخمة أمام سلع وبضائع دول التكتل.

والملاحظة الثالثة، أن الدول الست هي كلها قوى مؤثرة وفاعلة في محيطها الإقليمي، بما يمنحها أوزانًا نسبية يمكنها أن ترجح كفة التكتل في كثير من القضايا الدولية محل النزاع.

بعبارة أخرى، يمكن قراءة قرار قادة "بريكس" في تفعيل التكتل وتوسيع عضويته، بالرغبة في تأسيس نظام عالمي أكثر عدًلا يقوم على أساس الأوزان النسبية ديموجرافيًا واقتصاديًا لا على أساس التقدم والتخلف، ولا على أساس احتكار القوة والثروة والمعرفة.

انضمام الدول الست الجديدة يعد تحولًا تاريخيًا سيغير من تركيبة مجموعة "بريكس" وسيزيد من نفوذها وقدراتها الاقتصادية بشكل كبير، حيث:

  • تتميز دول بريكس بتنوعها الكبير فيما يخص الجوانب الاقتصادية والثقافية والجغرافية. هذه الدول بها مجتمعات غنية ومتنوعة، ما يمنح التكتل طابعًا متعدد الأوجه. وبالنظر إلى حجم سكان دول بريكس، فإنها تمثل ما يقرب من 40% من سكان العالم حاليًا، ونحو نصف سكان العالم بعد انضمام الأعضاء الجدد رسميًا مطلع العام الجديد، ما يمنحها صوتًا قويًا في المحافل المسئولة عن تحديد مسارات السياسة الدولية وصناعة واتخاذ القرارات المصيرية.
  • سيرتفع حجم اقتصاد مجموعة "بريكس" من 26 تريليون دولار، بما يمثل حوالي 25.6% من حجم الاقتصاد العالمي في 2022، إلى حوالي 29 تريليون دولار، أي حوالي 29% من حجم الاقتصاد العالمي، بعد انضمام الأعضاء الجدد.
  • ستزيد مساحة الأراضي التي تسيطر عليها الدول الأعضاء من ربع مساحة اليابسة في العالم إلى حوالي 32% من المساحة الإجمالية. بمعنى آخر هو زيادة في الأهمية الجيواستراتيجية لما تحتويه تلك الأراضي من ثروات وممرات إضافية للتجارة الدولية.

الانعتاق من هيمنة الدولار

في مداخلة تليفزيونية خلال افتتاح القمة الأخيرة قبل يومين، تحدث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن ضرورة تقليل الاعتماد على الدولار في عمليات التجارة الدولية، وأشار إلى البيانات المتعلقة بالقوة الاقتصادية للدول الأربع الرائدة في التكتل "الصين، الهند، روسيا والبرازيل" والتي تتنافس مجموعة الدول السبع الكبرى اقتصاديًا.

منذ بدء الولايات المتحدة في عام 2022 بزيادة معدلات الفائدة بسرعة، بدأت الأصوات القادمة من الدول النامية تعلو بالدعوة للحد من الاعتماد على الدولار والتخلص منه، نظرًا لارتفاع تكاليف اقتراضه سياسيًا قبل أن تكون مالية.

أعلى الأصوات في هذا الاتجاه هو صوت الرئيس البرازيلي اليساري لولا دا سيلفا، الذي وضع مسألة التحرر من الدولار في مركز المعارك التقدمية التي يعتزم خوضها، وعبر علنًا عن هذه الرغبة في خطاب ألقاه خلال زيارته للصين أبريل الماضي، حين قال "كل مساء، أتساءل لماذا يتعين على جميع الدول التبادل التجاري بالدولار؟!".

يسعى التكتل الوليد إلى تعزيز التبادل التجاري والاستثمار المشترك بين هذه الدول، ما يعزز من نموها الاقتصادي ويخفض من تبعيتها لتقلبات الأسواق العالمية.

نظام برايتون وودز: هو نظام نقدي للتبادل الدولي، أُنشيء بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في مؤتمر بريتون وودز عام 1944 بولاية نيو هامبشير الأمريكية، بغرض حماية الاقتصاد العالمي بعد الحرب وتعزيز استقرار أسعار الصرف بين الدول من خلال ربط قيمة كل العملات بالدولار الأمريكي، على أن يكون لكل دولار تطبعه الولايات المتحدة غطاء ذهبي لدى الفيدرالي الأمريكي. بعد هذه الخطوة اُستخدم الدولار المغطى بالذهب كاحتياطي نقدي لدى البنوك المركزية حول العالم، حتى قرر الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون في عام 1971 فك ارتباط الدولار بالذهب فيما عرف بـ"صدمة نيكسون"، وتحول الدولار منذ ذلك التاريخ إلى سلعة في حد ذاته تقتنيه الدول بديلًا عن الذهب في تكوين احتياطياتها النقدية كمخزن للقيمة أو ما عرف بظاهرة "الدولرة".

ليست مجرد خطوة اقتصادية

مع انفتاح العالم على توجهات اقتصادية وسياسية جديدة، بادرت مصر بحجز مقعدها داخل "بريكس". تلك المجموعة التي أثبتت أهميتها المتزايدة في عالم تسوده التحولات الاقتصادية والسياسية. في هذا السياق تتجلى أهمية انضمام مصر إلى التكتل في عدد من النقاط تجعل خيارًا استراتيجيًا يعد بتعزيز التعاون الدولي وتوسيع آفاق الاقتصاد، فأن تكون عضوًا في تكتل اقتصادي يسهم بأكثر من 30% من الإنتاج العالمي، يعني تحقيق توازن أكثر استدامة في علاقاتك التجارية مستقبلًا.

من المؤكد أن انضمام مصر إلى "بريكس" لن يكون مجرد خطوة اقتصادية، بل سيفتح الأبواب أمام فرص تجارية واستثمارية كبيرة. سيتيح هذا الانضمام لمصر زيادة التبادل التجاري وتعزيز التعاون المشترك مع دول "بريكس"، وهو ما يمكن أن يسهم بشكل كبير في تنويع مصادر الاقتصاد وتحسين نموه. بالإضافة إلى ذلك، ستمكّن مصر من الوجود في تكتل يحمي مصالحها السياسية والاقتصادية، وبالتالي تعزيز دورها الإقليمي والدولي.

تُظهِر المعطيات أيضًا أن انضمام مصر لـ"بريكس" سيكون له تأثير إيجابي على القضايا النقدية والمالية. استفادة مصر من استخدام العملة المحلية أو أي عملات أخرى غير الدولار في التعاملات مع دول "بريكس" يعد حلًا مهمًا للتغلب - جزئيًا - على مشكلة نقص النقد الأجنبي، وسيسهم في تنويع سلة العملات الأجنبية لديها، وهو أمر حيوي لتحقيق استقرار اقتصادي مستدام، حتى لو لم يكن بالقدر المطلوب في الأجل القصير.

الحقيقة المرة

بتأكيدات الخبراء، لن يمكن الاستغناء كليًا عن الدولار في عمليات التجارة الدولية خلال الأجل المنظور، حتى بين أعضاء "بريكس" أنفسهم، فالنظام المالي العالمي المستقر منذ ما يقرب من 80 عامًا، والالتزامات الناشئة عن استخدام الدولار في التسويات الدولية يصعب استبداله بين عشية وضحاها.

بنفس درجة التأكيد، لا يمكن إغفال دور "بريكس" في تخفيف الطلب على الدولار في الدول الأعضاء. لكن هذه النسبة ستتوقف على حجم التجارة البينية لدول المجموعة، وعلى ما يمكن استبداله من مدفوعات للغرب، سواء كانت تلك الأموال نظير واردات سلعية وخدمية أو تسهيلات ائتمانية ومصرفية كالقروض وغيرها. هذه الأوضاع المالية القائمة تحتاج إلى آجال طويلة لتغييرها.

مثال للتوضيح، بلغ حجم التبادل التجاري بين مصر والصين لعام 2022 حوالي 14.9 مليار دولار، منها 1.7 مليار دولار صادرات، و13.2 مليار دولار واردات، ما يعني أن مصر يمكنها الدفع للصين ما قيمته 1.7 مليار دولار بالجنيه المصري من إجمالي قيمة الواردات بشكل مباشر، لأن الصين ستستخدم هذا المبلغ ليس أكثر في شراء احتياجاتها من مصر. وسيتبقى ما قيمته 11.5 مصر مطالبة بأن تدفعهم إلى الصين بعملة مقبولة دوليًا.

بمعنى آخر لن تحتاج الصين الجنيه المصري إلا لدفع قيمة وارداتها من مصر البالغة 1.7 مليار دولار. هذه القاعدة كانت سارية فقط قبل انضمام مصر لـ"بريكس"، أما بعد العضوية يمكن للصين من خلال عمليات المقاصة الداخلية بين الدول الأعضاء قبول جنيهات مصرية أكثر من 1.7 مليار دولار، لأنها ستستخدمها في تسوية مدفوعاتها مع الدول الأخرى التي لها تبادل تجاري مع مصر.

مثلًا بلغ حجم التبادل التجاري بين مصر وإثيوبيا لنفس العام حوالي 119 مليون دولار. 111 مليون دولار صادرات مصرية، و8 ملايين دولار واردات من إثيوبيا، أي أن الفائض في ميزان المدفوعات يساوي 103 ملايين دولار مستحقة لمصر لدى إثيوبيا، في هذه الحالة تستطيع الصين أن تقبل من مصر بالجنيه المصري ما قيمته 1.7 مليار دولار، بالإضافة إلى 108 ملايين دولار لدى إثيوبيا، بإجمالي 1.808، ثم تسوي مدفوعاتها مع إثيوبيا بنفس الطريقة.

الدول الجديدة المنضمة إلى "بريكس" تسعى جاهدة إلى إيجاد وسائل للتجارة خارج نطاق الدولار، خصوصًا أن كل هذه الدول تواجه أزمات متعلقة بالعملة الصعبة بسبب السياسات الأمريكية المستمرة التي تستنزف ثروات الدول الضعيفة من خلال الثقب الدولاري. فمثلًا تفاقمت ديون بعض الدول ومنها مصر بسبب ارتفاع معدلات الفائدة الأمريكية إلى مستويات قياسية في الأشهر الأخيرة، فارتفاع الفائدة على الدولار يؤدي حتمًا لارتفاع تكاليف خدمة الدين المقوّمة بالدولار!

من يجني الفوائد؟

إن المنفعة من انضمام مصر إلى عضوية "بريكس" متبادلة. فكما يوفر التكتل لمصر فرصة لتخفيف الضغوط على العملة المحلية، وفتح آفاق أوسع للتبادل التجاري، وإيجاد مصادر جديدة للتمويل والاقتراض بعيدًا عن مؤسسات التمويل الدولية، توفر مصر للتكتل فرصًا هائلة في سبيل توسيع أنشطته وتنويعها وتصريف منتجاته في سوق استهلاكية ضخمة تضم أكثر من 100 مليون مستهلك.

كما أن مصر هي البوابة الشمالية للقارة الإفريقية والمدخل الرئيسي إلى أسواقها البالغ حجمها أكثر من 1.3 مليار نسمة، فضلًا عن كونها القائد الطبيعي للمنطقة العربية ودولة المقر لجامعة الدول العربية، بما يضمن إمكانية الوصول إلى أسواق إضافية يقدر حجمها بنصف مليار نسمة.

الخلاصة أن التكتل سيستفيد من عضوية مصر بقدر ما ستستفيد مصر منه، لكنه لن يوفر بديلًا عاجلًا لأزمة نقص الدولار.