رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ماذا يفعل المصريون فى القرن الجديد؟

ترافقت بدايات الألفية الثانية مع الزحف الكبير لمواقع التواصل الاجتماعى، وسيطرتها على عقول مستخدميها، بل التحكم فى اختياراتهم ومجريات حياتهم، ربما كانت البدايات الأولى لها مع نهايات التسعينيات من القرن الماضى، لكنها كانت مجرد مواقع لنقل الرسائل والمحادثات الخاصة أو العامة، وربما كان ذلك السبب المباشر فى أنها لم تنتشر بالصورة التى نعرفها الآن، وفى أنها واصلت محاولات التطوير من أدواتها، ومما تقدمه لمستخدميها من وسائل ومغريات.

استمر ذلك السعى بطيئًا ودون نتائج كبيرة، حتى كانت بدايات العام ٢٠٠٣، وذلك مع ظهور موقعين مهمين، أولهما «فريندستير» الذى كان يقدم لمستخدميه إمكانية مشاركة المحتوى، وتبادل الصور ومقاطع الفيديو، والثانى هو موقع «ماى سبيس» الذى أضاف إلى رفيقه إمكانية ممارسة الألعاب الإلكترونية مع مستخدمين آخرين فى أى مكان فى العالم، ما منحهما انتشارًا واسعًا، وشعبية طاغية حول العالم، لكن تلك الشعبية لم تستمر طويلًا، وما لبثت أن تلاشت تمامًا مع البدايات الأولى لموقع «فيسبوك» الذى بدأ الإعلان عنه بدايات ٢٠٠٦، والذى تحول فى خلال سنوات قليلة إلى منصة دولية، دخلت معها مواقع أخرى إلى ساحة المنافسة، وجنى الأرباح، وهنا كانت النقلة الأكبر، والأكثر تأثيرًا، مع إصرار القائمين على تلك النوعية من المواقع على تطوير أدواتهم، والوصول إلى أقصى نقطة على وجه الأرض، واستخدامها لتحقيق أقصى أرباح ممكنة، أيًا كانت السبل، وأيًا كانت النتائج، حتى وصل الحال بنا إلى تلك الفوضى العارمة، التى أغرقت البشرية فى محيط هائل من المهاترات، والشائعات، والأكاذيب، تدعمها وسائط التكنولوجيا الحديثة، وأساليب العبث بالمحتويات الأصلية، أيًا كانت تلك المحتويات، صورة كانت، أم مقاطع صوتية.. حتى مقاطع الفيديو لم تنج من إمكانية العبث بها وتحريفها، سواء بالتغيير، أو التلفيق، أو حتى الإنشاء من لا شىء.. حتى تحولت مواقع التواصل الاجتماعى من ميزة بشرية، تتيح لمستخدميها إمكانات التعرف على الآخر البعيد، والتواصل معه، والدخول فى حوارات ربما تثمر عن علاقات لم يكن من سبيل لحدوثها لولا هذه الوسائط الجديدة، وتسمح لهم بالتطور والتقدم والاطلاع على أفكار وتصورات لم تكن متاحة من قبل، تحولت إلى منصة لكل من «هب ودب»، وأمسك هاتفًا ذكيًا، فكان موعد البشرية مع مقولة الفيلسوف الإيطالى الكبير أمبرتو إيكو الشهيرة بشأن «غزو البلهاء»، حين أصبح الهاتف ذكيًا، يتيح لكل من يمسك به أن يفعل ما يشاء، ويقول ما يشاء، فيكتب، وينشر ما يعن له من هراء، فتقرؤه جموع الأصدقاء والمتابعين، هنا وهناك، وفى كل أنحاء العالم.

وإذا كان الأمر لا يخصنا وحدنا، بل يصل إلى كل أنحاء العالم، فإنه من المناسب أن نحاول فهم ما يحدث هنا، لنا وعلينا، على أرض مصر، وفى أركانها، إذ لم تعد مواقع التواصل الاجتماعى مجرد وسيط للتعارف واكتساب الخبرات، والاطلاع على التجارب والآراء، بل أصبحت أحد أهم أسلحة صناعة الرأى، وتوجيهه، واستخدامه لتحقيق أهداف المتحكمين فى تلك الوسائط الحديثة، وباتت بين سنة وأخرى السلاح الأقوى فى قياس توجهات البشر وميولهم ورغباتهم، بل معرفة ما هم مقدمون عليه.

ولعله من المناسب أن نذكر هنا أنه عندما نشر الدكتور جلال أمين كتابه المهم «ماذا حدث للمصريين» فى بدايات هذا القرن، لم تكن حدة التغيرات فى الشخصية المصرية خلال الخمسين عامًا التى علق عليها، وأفاض فى شرحها وتحليلها، بمثل تلك الضخامة التى تبدو عليها الآن.. بالطبع كانت مادة الكتاب بمثابة محاولة جادة لقراءة التغيرات التى حدثت فى الشخصية المصرية خلال الخمسين عامًا الأخيرة من القرن العشرين، وإن تمت كتابتها بطريقة كوميدية ساخرة، وعبارات سهلة موجزة وبسيطة، لكنها كشفت لمن يهمه الأمر حفنة من التغيرات والأمراض التى شوهت الشخصية المصرية، وطمست ملامحها واستدعت محاولات للنهوض بها مرة أخرى، واستعادة الروح التى طالما ميزت مصر والمصرين لسيرتها الأولى.

فى ذلك الكتاب المهم، تناول الدكتور جلال أمين، أستاذ الاقتصاد بالجامعة الأمريكية بالقاهرة حتى وفاته فى سبتمبر ٢٠١٨، عددًا من التغييرات التى طرأت على طريقة تعامل المصريين مع الحياة، ومع بعضهم البعض، وما شهدته مصر من صعود لطبقات وانهيار لطبقات أخرى أوشكت على الاختفاء، وسيطرة تيارات التعصب الدينى على مجريات الحياة الاجتماعية والثقافية، ومحاولات تلك التيارات للتسلل إلى مسارات الحياة السياسية والاقتصادية، على أن هذا الكتاب الذى قوبل باحتفاء نقدى وجماهيرى واسع، بل دشن حضورًا خاصًا لكاتبه بين رواد علم الاجتماع البعيد عن تخصصه الدقيق، لم تتبعه قراءات أخرى تتابع تحركات الحياة فى مصر، وترصد انحرافات مساراتها، أو على الأقل تواجه تلك الانحرافات أو تحاول تقويمها، لا من مؤلف الكتاب، ولا من غيره من الباحثين أو المهتمين، رغم وفرة المتخصصين فى الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، سواء داخل أسوار الجامعات المصرية أو خارجها.. وأغلب ظنى أنه مع دخول وسائل التواصل الاجتماعى على خط المواجهة والتوجيه، وصناعة الرأى، ورصد المحركات النفسية وتوجيهها، أصبحت دراسة تغيرات الشخصية المصرية في القرن الجديد فى مقدمة ما ينبغى على المتخصصين فى علم الاجتماع الإنسانى رصده، ودراسته، وتحليله، فالمؤكد أن ما حدث من تغيرات فى الشخصية المصرية خلال السنوات المنقضية من القرن الجديد، يعادل ما جرى خلال عقود طويلة، ولا يليق أن نمر عليه مرور الكرام، دون حتى قراءة أولية.. ربما يمكننا أن نفهم «ماذا يفعل المصريون فى القرن الجديد؟».